أنشودة العدم

"أخيرا أنت تتألم، أخيرا أنت موجود!" الشاعر الفيلسوف بورفير إجلانتين
أنشودة العدم
في البيداء المترامية
حيث تمتد الرمال إلى ما لا نهاية
أبحث..
أبحث عن الطريق المفقود
الطريق الذي لا أهتدي إليه
وتحوم روحي هنا وهناك
في كل اتجاه وفج
تتلمس فلا تصادف شيئا
وسط هذا الفضاء العريض
هذا الفضاء اللانهائي
هذه الرمال..
هذه الرمال المتوهجة المزهقة للأنفاس
هذه الرمال الآسِنَة الـمُمِلَّة
التي تمتد بلا حدود
إلى الأفق البعيد..
ويترامى إلي أخيرا
صوت..
صوت مدو وعذب معا
يهتف..
أتظن أنك روح ضائعة؟
تحسب أنك روح !!
فأنت عدم
ولا وجود لك
بورفير إجلانتين (فَرفوريوس الصُّوري( من مواليد صور (234-305 م)، يُعتبر أحد أبرز ممثلي الفلسفة الأفلاطونية الْمُحْدَثة، تتلمذ على يدي أفلوطين، من أشهر مؤلفاته 'إيساغوجي' وهو مدخل أو مقدمة لمقولات ومنطق أرسطو، ثم كتاب 'ضد النصارى' الذي  انتقد فيه النصرانية والكنيسة التي كانت مدوخة الناس بخزعبلاتها.
لعب بورفير دورًا أساسيا  في تطور الفكر في نهاية العصور القديمة وطيلة العصور الوسطى، إلا أن أعماله الضخمة القيمة -التي تمت قراءتها على نطاق واسع وتركت آثارًا  عظيمة لدى العديد من المؤلفين اليونانيين واللاتينيين والعرب- انقرضت إلى حد كبير اليوم، ففى سنة  448 م، قام كل من الإمبراطور تيودوز الثانى فى شرق الإمبراطورية الرومانية، وفالنتينيان الثالث فى غربها  بإصدار مرسوم يأمر بحرق كل ما كتبه الشاعر الفيلسوف بورفير ضد عبادة المسيحيين المقدسة، لعدم رغبتهما فى أن تؤدى مثل هذه الأعمال إلى غضب الرب أو أن تضر مسامع البشر إذا ما وصلت إليهم حسب ادعائهما، وقد اعتبر هذا العمل الإجرامي بمثابة جريمة ضد الإنسانية.
كان بورفير فيسلوفا مرهف الإحساس، لدرجة أنه بدأ يشك في وجوده، فكان كلما تطلع إلى المرآة ساورته الشكوك في أن لا تظهر صورته، فسعى إلى ابتداع فلسفة خاصة به تبدد كل تلك الشكوك، ومن هنا كتب قصيدته الرائعة التي تحمل إسم 'أنشودة العدم'، التي من بين ثنايا أسطرها يُسْتَشَفُّ أن النجاح لم يكن حليفه، فعقد العزم على إثبات وجوده بأي صورة وبأي ثمن كان حتى يتمكن من إخماد الصوت الذي يعذبه من داخله، فقادته تأملاته الفلسفية العميقة وملاحظاته الدقيقة إلى الاقتناع أخيرا بأن ما من شيء حقيقي كالألم، وأن بالألم وحده يتحقق الوجود، فهام على وجهه في ربوع الأرض في رحلة الحزن والأسى الطويلة والمؤلمة.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق