"المفهوم العام لكلمة سياسة هو كونها ليست سوى تجمع للفساد" الأديب والسياسي الأيرلندي الإنجليزي جوناثان سويفت
رأى الكاتب الأيرلندي الساخر جوناثان سويفت Jonathan Swift النور بالعاصمة الأيرلندية دبلن سنة 1667 وبها توفي سنة 1745 عن عمر ناهز 77 عاما، وهو إضافة لاشتهاره بكتاباته الساتيرية الغارقة في السخرية والمنتقذة لعيوب المجتمع إبان تشديد الخناق للسلطة البريطانية على الأيرلنديين المعروفين بثوريتهم وتمردهم اللذين يسريان في دمائهم، كان أيضا شاعرا وقسا، وهو الذي اقترح على السلطة البريطانية أيام تفشي المجاعة بأيرلندا أن تحث السكان المحليين على أكل أطفالهم، وألف في ذلك كتابا سنة 1729 تحت عنوان "اقتراح متواضع" يتهكم فيه على السلطة الأنكَليزية الحاكمة، وكان قد ألف قبله سنة 1704 "خرافة مغطس" الذي انتقد فيه الفرق والطوائف الدينية التي كانت تتقاتل وتتنازع فيما بينها من أجل الاستيلاء على كعكة المال والسلطة للاستمتاع بالحياة الرغدة وليس في سبيل الله كما يَدَّعون.
ولعل أشهر مؤلفات سويفت الساخرة هي حكاية "رحلات غوليفر" التي ألفها سنة 1721، ولم تظهر أول طبعة منها إلا سنة 1726، وكانت منقوصة وخاضعة لمقص الرقابة، ولم يتسن الحصول على طبعة كاملة بدون تقزيم بمقص الرقابة إلا سنة 1735، أي بعد 14 سنة من تأليفها، وإن ظهر السبب بَطُلَ العجب، فهذه الرواية تعتبر قمة السخرية والهجاء السياسي والاجتماعي من خلال توظيف وخلط عناصر شتى من وصف سردي، وفلسفة، ومنطق، وبديع، وخيال علمي.
ولعل أشهر مؤلفات سويفت الساخرة هي حكاية "رحلات غوليفر" التي ألفها سنة 1721، ولم تظهر أول طبعة منها إلا سنة 1726، وكانت منقوصة وخاضعة لمقص الرقابة، ولم يتسن الحصول على طبعة كاملة بدون تقزيم بمقص الرقابة إلا سنة 1735، أي بعد 14 سنة من تأليفها، وإن ظهر السبب بَطُلَ العجب، فهذه الرواية تعتبر قمة السخرية والهجاء السياسي والاجتماعي من خلال توظيف وخلط عناصر شتى من وصف سردي، وفلسفة، ومنطق، وبديع، وخيال علمي.
بدأ سويفت بكتابة هذه الرواية بسب أزمة سوق الأوراق المالية الخانقة التي حدثت ببريطانيا العظمى سنة 1720، فقد كان سويفت اشترى عدة أسهم في 'شركة بحار الجنوب' مقابل 1000 جنيه، إلا أن المضاربات رفعت من قيمة السهم الواحد من 128 جنيه إلى 1050 جنيه، قبل أن تنهار قيمة الأسهم إلى 150 ثم 100 جنيه، مما أدى إلى العديد من حالات الإفلاس بين ألئك الذين اشتروا علن طريق الائتمان، ثم ما لبثت الأزمة أن هزت الأبناك التي تعهدت بأسهم ولم يعد بإمكانها سدادها، ولم يكن أمام المستثمرين سوى البيع بخسارة كبيرة لسداد قروضهم، وكان من بين هؤلاء المفلسين العديد من أعضاء حكومة المملكة البريطانية العظمى، وحتى العالم إسحاق نيوتن مكتشف الجاذبية لم ينج من هذه القالب الرأسمالي، فبعد أن حقق ربحا مقداره 7000 جنيه قبل الأزمة، خسر بعدها 20000 جنيه، ولم يستطع إخفاء خيبة أمله عندما قال: "أستطيع أن أتنبأ بحركة الأجسام السماوية، ولكنني ليس باستطاعتي أن أتنبأ بحماقة الناس".
وكانت هذه الرجة الكبيرة في سوق الأموال من خلال الارتفاع الصاروخي ثم الانخفاظ الدراماتيكي في قيمة الأسهم وفي ظرف زمني وجيز هي السبب الرئيسي الذي أوحى إلى جوناثان سويفت بشخصية غوليفر، التي ستعبر مجازا عن هذا الانهيار، وتُعطي له الفرصة للتهكم والسخرية الساتيرية على المجتمع بطريقة لاذعة، ذكية، وواقعية في أربع رحلات تبدو للوهلة الأولى في سرد وقائعها وبلدانها الغريبة النائية، وشخصياتها الخيالية بأنها لا تمت للواقع بصلة، إلى أنها ستزيل الستار للقارئ المتمعن عن عيوب ونواقص وآفات المجتمع البريطاني خاصة، والطبيعة البشرية بصفة عامة:
1- رحلة إلى ليليبوت
تتحطم السفينة التي تقل غوليفر في بحار الجنوب، فيجد نفسه في أرض تسمى 'ليليبوت' سكانها من الأقزام لا تتجاوز قامة الواحد منهم 15 سنتمترا، بحيث يظهر غوليفر بينهم كأنه جبل، قام الأقزام بحبس غوليفر وعلموه لغتهم مدة من الزمن، في أحد الأيام أطلعه أحد مستشاري الملك على المشاكل التي تتخبط فيها مملكة ليليبوت، وكانت تتجلى :
أولا في وجود حزبين، أحدها يقلد الأجداد من خلال احتذاء الأحذية ذات الكعب العالي، بينما يقوم الحزب الآخر الذي يبدو عصريا وحداثيا على احتذاء الأحذية ذات الكعب المنخفظ.
ثانيا هو في كون الناس كانت تقشر البيض من النهاية الكبرى، فقُطِعَ أصبع جد الملك، فصدر قانون يقضي بتقشير البيض من النهاية الصغرى، فرفض بعض الناس ذلك وتمردوا على السلطة، ثم هربوا إلى بلد مجاور إسمه 'بلفيسكو'، فعرض المستشار على غوليفر مساعدة المملكة للقضاء على المتمردين مقابل إطلاق سراحه، وافق غوليفر على ذلك وأعد خطة للاستيلاء على أسطول بلدة 'بلفيسكو'، وتمكن غوليفر من الاستيلاء على الأسطول وعاد إلى 'ليليبوت'، فحاول ملكها أن يفرض على غوليفر أسر سكان 'بلفيسكو' لاستعبادهم، فاعترض غوليفر على الملك لأنه كان من أنصار حرية الشعوب، فقرر الملك أن يعاقبه بتجويعه وفقإ عينيه، فهرب غوليفر والتحق ببلدة 'بلفيسكو' حيث رحب به ملكها وعاش هناك عدة أشهر حتى حصل على قارب فأصلحه وأبحر به إلى أن وجد سفينة بريطانية حملته إلى لندن.
2- رحلة إلى بروبدنغناغ
غادر غوليفر إنجلترا في رحلة على سفينة باتجاه الهند، ولما وصلت إلى شمال جزيرة مدغشقر واجهت السفينة عاصفة شديدة أبعدتها عن مسارها، فرأى أحد البحارة أرضا، ثم نزل غوليفر والبحارة للبحث عن الماء، ولم يكونوا يدرون أنها أرض للعمالقة تسمى بروبدنغناغ، فوقع غوليفر أسيرا بين أيدي فلاح منهم، هذا الأخير الذي أخذه إلى منزله وتولت إبنته رعايته، والتي كانت قامتها 12 مترا ولم يتجاوز سنها تسع سنوات بعد، وكان غوليفر يبدو قزما بين هؤلاء العمالقة، فالزنابير كانت بحجم العاصفير، والكلاب بحجم الخيول، والفئران بحجم الأسود، والذباب بحجم القبرات، والقردة بحجم الفيلة.
أُعجِبَ ملك بلاد العمالقة بالمخلوق غوليفر، فاشتراه من الفلاح ليكون موضوع البحث والدراسة من طرف العلماء العمالقة، وكان الملك يدعوه للعشاء كل يوم أربعاء ويطلب منه أن يحدثه عن بلاده، فيحدث غوليفر الملك وحاشيته عن نظام الملك في بلاده، وما ينتشر بين ساستها من فساد، وعن مناورات الأحزاب وتنازعها من أجل الحكم وتوزيع المناصب، وعن نزوات ذوي السطة والنفوذ، وعن انتشار الرشوة، وعن سلطة رجال الدين وتواطئهم مع ذوي النفوذ، وعن حروبها فيما بين أفرادها.
فيتعجب ملك العمالقة من كون هذه المخلوقات التعسة الصغيرة تضيع وقتها في المنازعات والحروب، ويستغرب لما ينتشر بين أفرادها من أنانية وفساد ووحشية، ليستنتج أن المخلوقات التي ينتمي إليها ضيفه ما هي إلا حشرات جشعة لا يجدر بها أن تتحدث عن عظمة الإنسان.
3- رحلة إلى لابوتا وبالنباربي وغلوبدوبدريب واليابان
خلال رحلاته إلى المناطق النائية تتعرض السفينة التي تقل غوليفر إلى هجوم قراصنة، فينقذه سكان جزيرة متحركة إسمها 'لابوتا'، يسكنها العلماء والحكماء، غير أن رؤوسهم تميل نحو اليمين أو نحو الشمال، ولكل فرد منهم عين تنظر إلى السماء والعين الأخرى متجهة نحو الداخل، وهم منهمكون في مناقشات وافتراضات علمية لا علاقة لها بحياة الناس الواقعية، وبما أنهم فقدوا الذاكرة فإن لكل منهم خادما يذكره بما قال وما فعل.
يعتري سكان هذه الجزيرة خوف وهلع من أن تبتلع الشمس الأرض، أو أن تصطدم الأرض بمذنب، يزور غوليفر مدينة 'لاغادو'، فيجد أحد علمائها منهمكا في تجارب طويلة ومضنية لإنتاج أشعة الشمس من الخيار (القثاء)، وعالما آخر يحاول أن يبني بيوتا مبتدئأ من السقف، وعالما آخر يجرب أسلوبا جديدا للزراعة باستخدام عدد كبير من الخنازير لقلب التربة وتسميدها في نفس الوقت.
ويقوم بعد ذلك غوليفر بزيارة جزيرة السحرة والمشعوذين، حيث ينادي أرواح الأموات العظماء، فيكتشف أن التاريخ كان مليئا بما خيب آمالهم، ثم يرحل إلى جزيرة رُزِقَ أهلها الخلود ولكنهم غير سعداء، لأن حياتهم أصبحت غير ممتعة بعد أن فقدوا الذاكرة، وصار من المستحيل عليهم أن يتواصلوا مع غيرهم بسبب تطور اللغة، ويشعر غوليفر بالحزن والمرارة لما شاهد ولما سمع خلال رحلته هذه.
4- رحلة إلى دولة هويهنهنمس
بعد رحلة طويلة يجد غوليفر نفسه وسط حيوانات بشرية غريبة، وتزداد دهشته عندما يكتشف أن البلاد تحكمها خيول عاقلة، لها لغتها الخاصة التي تتخاطب بها، فيحدث غوليفر مُضيفه الفرس ومن معه بأن البشر في بلده هم الذين يسيطرون على الأمور، وأنهم يستخدمون الخيول ليركبوها أو لإنجاز الأعباء الشاقة، فيتعجب الفرس الـمُضيف وينزعج لما سمع، لأنه لا يدرك كيف تسمح مخلوقات تافهة مثل الإنسان لنفسها باستغلال مخلوقات نبيلة مثل الخيول.
يحدث غوليفر مُضيفه الفرس عن الحروب والمجاعات والآلام التي يجر إليها الملوك والزعماء شعوبهم في بلاده، من أجل فرض سلطانهم وأفكارهم على شعوب أخرى، كما يروي له ما يحدث بين الأفراد من نزاع وتطاحن واعتداءات بسبب الجشع والمال وحب النفوذ، ويحدث غوليفر مُضيفه الفرس عن وجود طبقة من الناس في بلاده يدعون رجال القانون، مهمتهم أن يجعلوا الأبيضَ أسوداً والأسودَ أبيضاً لصالح من يدفع أكبر مبلغ من المال.
ويشرح غوليفر لـمُضيفه الفرس كيف يكد الفقير ويكدح ليزداد صاحب الثروة ثراء، ويبقى الفقير فقيرا، وأن هناك كثيرا من السكان يضطرون للتسول أو السرقة لكسب معيشتهم، بينما تعيش فئة أخرى من السكان في بحر من الخيرات والكماليات، وبدأ غوليفر يحدث مُضيفه الفرس عن فئة الأطباء فلاحظ أن سكان البلد الذي استضافه لا يعرفون معنى الطبيب، ثم استطرد غوليفر قائلا بأن الطبيب في بلاده لا يُشفي المريض من مرضه، ولكنه على الأقل يتنبأ له بتاريخ وفاته.
واعترف غوليفر لـمُضيفه بأنه منذ أن حل ضيفا وعاش بين جنس الخيول في هذه الديار أصبح يشعر بالطمأنينة ويفضل أن يبقى معهم، لأنه لا يجد بينهم لصوصاً، ولا قُطاعَ طرقٍ، ولا محامينَ وأطباءَ فاسدين يبتزون أموالهم، ولا نبلاءَ ولا زعماءَ يلجأون إلى التحايل ويختلقون الأزمات للوصول إلى أهدافهم.
وذات يوم عقد زعماء الخيول اجتماعا عاما لمناقشة مسألة التخلص من بني البشر من فوق أرضهم، لأنهم وجدوا أنه من السهل تدريب الحمير واستخدامهم بدل البشر، فاقترح أحدهم أن يـُخْصِي بني البشر لـمنع تكاثرهم، وفي النهاية أعرب الحاضرون عن قلقهم مما فعله الفرس مع ضَيفهِ غوليفر، إذ أنه عامل أحد البشر بإحسان وإكرام تماما كما يُعَامَلُ الفرسُ، ويضطر غوليفر لمغادرة بلاد الخيول بعد أن قضى بها أسعد أيام حياته.
وبعد عودة غوليفر إلى بلاده، أصبح غير قادر على أن يعيش وسط أسرته بعد التجارب التي عاشها، فقرر أن يشتري فرسين ويعيش معهما في إصطبل عيشة هادئة هنيئة راضية، فما الفرق بين الإنسان والحيوان؟ هل هذا الاختلاف حقيقي أم أنه ظاهري؟ أم علينا أن نطرح السؤال الخطير: هل يجب أن نخجل من كوننا بشر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق