"زَرَعْتُ كَلِمَاتٍ مُقَدَّسَةٍ.. فِي أَرْجَاءِ الْعَالَمِ.. عِنْدَمَا تَذْبُلُ النَّخْلَةُ.. وَتَتَحَلَّلُ الصَّخْرَةُ.. فَلْيَكُنِ الْحُكَّامُ الْمُسْتَبِدُّونَ قَدْ كُنِسُوا كَأَوْرَاقٍ مَيِّتَةٍ.. أَلْفُ سَفِينَةٍ سَتَحْمِلُ كَلِمَتِي.. وَسَطَ الطُّوفَانِ.. كَلِمَتِي لَنْ تَمُرَّ، اِبْعَثْ إِلَى الْجَحِيمِ سِيَّاسِيِّيكَ وَدِبْلُومَاسِيِّيكَ."
يطلقون عليك إسم الرجل الصغير، الرجل المتوسط والرجل العادي، ويعلنون عن بداية حقبة جديدة، 'حقبة الرجل المتوسط'، لست أنت الذي تقول ذلك أيها الرجل الصغير، بل هم الذين يقولونه عنك، نواب رؤساء الأمم العظمى، زعماء العمال الذين تسلقوا بسرعة درجات السلم الاجتماعي، أبناء الطبقة البورجوازية، رجالات الدولة والفلاسفة، إنهم يمنحونك مستقبلك، ولكنهم لا يأبهون بماضيك، إنك وارث لماض فظيع ورهيب، وإرثك هو لهيب مشتعل بين يديك، إنني أنا الذي أقول لك ذلك.
كل طبيب، كل إسكافي، كل تقني أو مربي عليه أن يعرف نقط ضعفه إذا أراد العمل والسعي وراء رزقه، منذ بضع سنوات بَدَأْتَ بتحمل مسؤولية حُكْمِ الأرض، وأصبح مصير البشرية مرتبطا بأفكارك وأفعالك، غير أن أساتذك وأسيادك لا يطلعونك على طريقة تفكيرك ومن تكون في حقيقة الأمر، لا أحد يجرؤ على انتقادك كي تقرر مصيرك بنفسك، فأنت لست حرا إلا بمعنى محدد: حر من كل إعدادٍ لتقرير مصيرك بنفسك، حر من أي نقد ذاتي، لم أسمعك قط تقول: "تدعون أنكم تصنعون مني سيدا على نفسي وعلى العالم، ولكنكم لا تحدثوني عن كيفية تحقيق ذلك، ولا تدلوني على أخطائي الفكرية والعملية في الطريقة التي أنتهجها للقيام بذلك".
تضع نفسك تحت رحمة القوي ليمارس سطوته على الرجل الصغير، ولا تستطيع أن تقول شيئا، تضع ثقتك في الأقوياء والعاجزين الذين تحدوهم أسوأ النوايا ليتحدثوا باسمك وينوبوا عنك، ليتضح لك بعد ذلك مرة بعد أخرى بأنهم خدعوك وخانوك.
إنني أتفهمك، عندما رأيتك عاريا جسديا ونفسيا بدون قناع، وبدون بطاقة عضوية لحزب سياسي، بدون شعبيتك، عار كمولود جديد، كمشير في الجيش لا يستر عورته غير سرواله التحتي، ندبتَ وبكيتَ أمامي، وحدثني عن طموحاتك وحبِّك وشَجَنك، إنني أعرفك وأتفهمك، وسوف أقول لك من تكون حقا أيها الرجل الصغير، لأنني أعلق آمالا عظمى على مستقبلك الكبير الذي هو لك بدون شك، لذا يجب عليك بادئ ذي بدأ أن ترى نفسك كما أنت، أنظر إلى نفسك كما أنت حقيقة، اسمع إلى ما يقوله لك حكامك وممثلوك: "إنك رجل صغير متوسط"، فكر جيدا بالمعنى المزدوج لهاتين الكلمتين 'صغير' و 'متوسط'، لا تحاول الهرب، وامتلك الشجاعة للتحذيق في نفسك، "بأي حق تريدون أن تعطوني درسا؟" إنني أرى هذا السؤال يتلألأ في نظراتك الجبانة، أراه على فمك المتعجرف أيها الرجل الصغير، يتملكك الرعب أن تنظر إلى نفسك، وأن ينتقدك الآخرون أيها الرجل الصغير، كما أنت مرعوب من السلطة التي يَعِدُونَكَ بها، ليس لديك أية رغبة للتعلم عن كيفية استعمال هذه السلطة، لا تجرؤ على تخيل نفسك أنك باستطاعتك يوما ما الشعور بِأَنَاكَ بشكل مختلف، أن تشعر أنك حر، وليس مثل كلب شبع ضرباً مُبرحاً، أن تكون صريحا وليس مراوغا ومنافقا، أن تعلن عن حبك في وضح النهار وليس خفية تحت جنح الظلام.
ليس هنالك جهاز شرطة على وجه الأرض قوي بما فيه الكفاية كي يُلْغِيكَ، لو كانت هناك في حياتك اليومية فقط شعلة ضئيلة من الاحترام لنفسك، ولو كان لديك اقتناع تام أنه بدونك لن تستمر الحياة ولو ليوم واحد، فهل أخبرك مُحَرِّرُكَ بذلك؟ بالطبع لا.
سوف أقول لك شيئا أيها الرجل الصغير، لقد فَقَدْتَ الشعور بأفضل ما فيك، خنقته، وقتلته حيثما وجدته في الآخرين، في أطفالك، في زوجتك، في زوجك، في أبيك وأمك، إنك حقيرٌ وتريد أن تبقى حقيراً.
إنك تحتقر نفسك أيها الرجل الصغير وتقول: "من أنا حتى يكون لي رأي شخصي، وأقرر مصيري بنفسي، وأصرح بأن العالم كله لي"، إنك على حق بأن تتساءل من أنت حتى تكون سيد الحياة، سوف أقول لك من أنت:
أيها الرجل الصغير إنك تتميز بخصلة واحدة عن الرجال العظماء حقيقة، فالرجل العظيم كان في بدايته رجلا صغيرا مثلك، غير أنه طور صفة مهمة جدا، وَتَعَلَّمَ أن يرى أين تكمن نقط ضعف أفكاره وأفعاله، وعند إنجازه لمهمة عظيمة، تَعَلَّمَ أن يدرك تهديد حقارته ودناءته اللتين تثقلان كاهله، الرجل العظيم يعرف أين ومتى يجب عليه أن يصبح رجلا صغيرا، الرجل الصغير يجهل أنه صغير، ويتملكه خوف من إدراك ذلك، ويُخفي حقارته وضيق أفقه خلف أحلام من القوة والعظمة لرجال آخرين، إنه فخور بقادة الحروب ولكنه ليس فخورا بنفسه، إنه معجب بالفكر الذي ليس من إنتاجه عوض أن يُعْجَبَ بأفكاره، إنه يؤمن أكثر بأمور لايفهمها، ولا يؤمن بعدالة الأفكار التي يفهم معناها بسهولة.
أيها الرجل الصغير لقد بنيتَ بيتك فوق أرض رملية، وأنت تتصرف بهذه الطريقة لأنه ليس باستطاعتك أن تشعر بالحياة فيك، لأنك تقتل الحب في كل طفل قبل أن يولد، لأنك لا تتحمل أي مظهر من مظاهر الحياة، ولا تتحمل أي حركة حرة وطبيعية.
أيها الرجل الصغير تهرول نحو الرجل السخي، ذلك الذي يوزع بسعادة ممتلكاته وأمواله كي تسرقه، وأنت في نفس الوقت أيها المنحرف والمغفل الذي يلصق بالرجل السخي هذه الأسماء، تُتْخِمُ نفسك من معرفته وسعادته وعظمته، ولكنك لا يمكنك هضم ما ابتلعته، لتخرأه مرات عديدة وتفوح منه رائحة كريهة ومروعة.
أنت جبان، وكنت دائما جبانا، تقبض السعادة البشرية بين يديك، وتهدر كل شيء، أنجبت رؤساء ومنحتهم عقلية حقيرة، يأخذون صورا ويستنسخونها على ميداليات ويتبسمون باستمرار، لكنهم لا يجرؤون على تسمية الحياة باسمها، فتاة الثورة الصغيرة، أنتِ التي حملتِ العالم بين يديك، وألقيتِ قنابل ذرية على هيروشيما وناغازاكي، والحق يقال أن ابنك هو من ألقى بها، لقد ألقيتِ شاهد قبرك أيتها المرأة الصغيرة المنخورة بالسرطان، بقنبلة واحدة أرسلتِ إلى صمت القبر طبقتك وجنسك بأكمله، لأنكِ لم يكن لديكِ ما يكفي من المشاعر الإنسانية لإرسال تحذير لرجال ونساء وأطفال هيروشيما وناغازاكي، لم يكن لديكِ عظمة روح الكائن البشري، لهذا السبب سوف تختفين في صمت مثل حجر يهوي في قعر المحيط، لا يهم بما تفكرين وما تقولين الآن أيتها المرأة الصغيرة التي أنجبت جنرالات من الأغبياء، بعد خمسمائة سنة سوف يسخر منك الجميع وسيتعجبون، وما دمنا لم نفعل ذلك اليوم فذلك واحد من البراهين على بؤس هذا العالم.
أيها الرجل الصغير تُفَضِّلُ أن تنصت لرأي جارك، أو تتساءل إذا كانت أمانتك ستكلفك مالا، في قرارة أعماقك تحتقر نفسك حتى وأنت ملتحف بأثواب الكرامة والشرف، تخاف من المثابرة ومن العلو والأعماق، تبحث عن السعادة لكنك تفضل الأمن ولو بثمن عمودك الفقري بل بثمن حياتك، يستهزؤون منك وتضحك بملإ شدقيك مع الآخرين، تفترس سعادتك في الطعام والجنس بطريقة وحشية، تحلم بعباقرتك المحدودي الأفق بمظهرهم المتحضر، الذين تطوف بهم في أرجاء المدينة انتصارا بدون خجل، تخاف من الحياة وتسرق السعادة مثل لص تحت جنح الظلام، وتصيح وتتحدث بأعلى صوتك في كل وقت وحين أمام الآخرين لأنك خائف، تفكر مثل برميل فارغ، وتربي النشئ مثل برميل فارغ، تفرض على الحياة والأحياء بشاعتك ونفاقك وكراهيتك العنيفة التي تخفيها خلف بسمة صفراء، تخفي قسوتك ودمويتك خلف قناع المؤانسة والرقة واللطف، تضع تمثالا من الرخام لجنرالك لأجل أن تحترمه أكثر.
لهذا أنا خائف منك أيها الرجل الصغير خوفا قاتلا، لأن مصير البشرية متوقف عليك، وإنني خائف لأنك لا تفر من شيء حتى من نفسك، إنك مريض، أيها الرجل الصغير، مريض جدا.
لا يمكنك أن تقوم بشيء تجاه حقيقتي أيها الرجل الصغير، كل ما يمكنك القيام به هو قتلي، كما قتلت أصدقاءك الآخرين عيسى، راتيناو، كارل ليبكنشت، لينكولن وآخرين، يمكنك أن ترسلني إلى الآخرة كما يُقال بطريقة مبتذلة، ولكن في النهاية فأنت لا تقتل غير نفسك، وهذا لا يمنع من أن تكون وطنيا صالحا.
زَرَعْتُ كلمات مقدسة.. في أرجاء العالم.. عندما تذبل النخلة.. وتتحلل الصخرة.. فليكن الحكام المستبدون قد كُنِسُوا كأوراق ميتة.. ألف سفينة ستحمل كلمتي.. وسط الطوفان.. كلمتي لن تمر، ابعث إلى الجحيم سِيَّاسِيِّيكَ ودِبْلُومَاسِّيِيكَ.
ترجمة شخصية للمدون بتصرف عن مُؤَلَّفِ ‘Listen, little man
للطبيب والباحث النفسي النمساوي ويلهلم رايش Wilhelm Reich (1897-1957)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق