عَمَّ الْفَسَادُ وَأَصْبَحَتْ طُرُقُ الغِنَى وَقْفاً عَلَى مَنْ يَرْتَشِي أَوْ يَعْتَدِي
وَعَلَى الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ بعِرْضِهِمْ مَا بَيْنَ شَارٍ رَائِحٍ أَوْ مُغْتَدِي
أحمد شوفي رحمة الله عليه
عَرَّفَ الشيخ متولي الشعراوي رحمة الله عليه الفساد في
الأرض بأنه هو خروج الشيء عن حد اعتداله، عندما يسرف الناس في الشهوات والأطماع،
ويسرفون في عقابهم لبعضهم البعض، ويسرفون في اعتدائهم على حقوق الغير، والفساد في
الأرض هو أن يوجد منهج مطبق غير منهج الله، وهو ما جار به العمل في كل دول الدنيا بدون
استثناء.
وعندما يغيب منهج الله يُصبح كل إنسان عبدا لهواه، ولما تصبح الأمور تُدَارُ حسب أهواء الناس تأتيهم الحياة بالشقاء والشر بدلا من السعادة والأمن، وأكبر
علامة على الفساد هي كثرة شكاوى الناس من المستضعفين، مما يعني أن الناس تعاني كثيرا ولا أحد يتحرك أو يتململ قيد أنملة كي يرفع أسباب هذه الشكاوى التي تتقاطر يوميا على أجهزة الأنظمة الحاكمة حتى تغرقها.
فمن المحال وضرب من الخيال إصلاح المجتمع وتخليصه من وسخ الفساد
والمفسدين عندما تكون فئة قليلة منه لا تتجاوز نسبتها حتى واحد في المائة من
عدد سكان البلد تحتكر جميع الموارد الطبيعية والاقتصادية للبلاد، في حين أن الأغبية الساحقة
بالكاد تسد الرمق.
ومن المحال وضرب من الخيال تشطيب الفساد والقذف به في مزبلة
التاريخ دون تثبيت استقلالية وسيادة القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة على أي
مسؤول مهما علا واستعلا.
ومن المحال وضرب من الخيال تحقيق أي تقدم وأية تنمية حقيقية في أي بلد يئن تحت وطئة نظام استبدادي
يكاد يزهق روح محكوميه.
وأول
مظاهر الفساد أن يُوكَلَ الأمر إلى غير أهله، ومتى حدث ذلك فانتظر الساعة، لأن
المجتمع حينئذ يكون مبنيا على النفاق واختلال الأمور، وليس على الإتقان والإخلاص،
فمن يجيد النفاق يصل إلى الدرجات العلا، ومن يتقن عمله لا يصل إلى شيء، وعندئذ
تصبح شرذمة من المنافقين الجهلة من أولاد الحرام هم الذين يسيرون الأمور بدون علم.
إن الفساد في الأرض هو أن يضيع الحق، وتضيع القيم، ويصبح
المجتمع غابة، كل إنسان يريد أن يحقق هواه بصرف النظر عن حقوق الآخرين، ويشعر من
يعمل بإتفان وإخلاص ولا يصل إلى حقه أن لا فائدة من ذلك، فيتحول المجتمع كله إلى
مجموعة من الساخطين الغير منتجين.
إن الفساد الاجتماعي والفساد السياسي والإداري والفساد الديني والفساد الاقتصادي والفساد الأخلاقي هي مهلكات الأنام وداعيات حتى المجتمعات القوية المؤسسات والمتينة الاقتصاد إلى الاندحار والانهدام ورحم من قال:
ثَلاَثَةٌ شَأْنُهُمُ الفَسَادُ النَّارُ وَالبَرْبَرُ وَالْجَرَادُ
والبربر هنا تعني الإنسان البدائي المتوحش الذي لم يتحضر بعد، ومن المعلوم أن الجراد كلما كثر طاب لقطه، وتقوت عساكره التي تأتي على كل ما تجده في طريقها، ولا تُبقي ولا تذر شيئا ينبت فوق الأرض بارتفاع بوصة، لتترك القرى من بعدما تعتوا فيها فسادا خالية على عروشها، كذلك هو الشأن بالنسبة للفساد:
مَرَّ الْجَرَادُ عَلَى زَرْعِي فَقُلْتُ لَهُ الْزَمْ طَرِيقَكَ لاَ تُولِعْ بِإِفْسَادِ
فَقَالَ مِنْهُمْ خَطِيبٌ فَوْقَ سُنْبُلَةٍ إِنَّا عَلَى شَفْرٍ لاَ بُدَّ مِنْ زَادِ
إِنَّا جُنُودٌ لِرَبِّ الْعَرْشِ مُرْسَلَةٌ مِنَّا حَصِيدٌ وَمِنَّا غَيْرُ حَصَّادِ
واتفق كل الحكماء بجميع مللهم ونحلهم بقديمهم وحديثهم بأن البناء إذا أسس على قواعد وركائز غير صلبة وغير صحيحة ومغشوشة كان الفساد أقرب إليه من الصلاح، ينطبق عليه قول الشاعر:
أَيُرْجَى بِالْجَرَادِ صَلاَحُ أَمْرٍ وَقَدْ جُبِلَ الْجَرَادُ عَلَى الفَسَادِ
قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى وَلاَ يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الفَسَادِ
وقيل مرة للحاكم العاشر من حكام بني أمية الطغاة المتجبرين هشام بن عبد الملك: أتطمع في (الخلافة) وأنت جبان بخيل، فقال: كيف لا أطمع، وأنا عفيف حليم؟! فقام وكتب على التو إلى قائده العسكري الغني عن التعريف مسلمة بن عبد الملك: طهر عسكرك من أهل الفساد، فإن الله لا يصلح عمل المفسدين.
فالفساد قديم على الأرض قدم البشرية، ومنتشر في كل مكان وفي كل شبر من هذا الكوكب الطيني المعلق بشعرة في الفضاء، لأن الفساد هو في حقيقة الأمر أخ البشر في الرضاعة، فكيف يمكن تصور حياة البشرية بدون فساد؟ فهي ستبدو بلا مذاق كالطعام بدون ملح، لذا كان من اللازم أن تكون نظم الحكم في مجملها فاسدة باستثناء فترات نادرة في التاريخ البشري، فالإدارة فاسدة، والأحزاب المتناحرة على الحكم بكل وسيلة فاسدة، وكل حزب بما لديهم فرحون، والانتخابات التي تزيف فيها الحقائق ويلوى فيها عنق القوانين ليا فاسدة، بينما تبقى الشعوب المستضعفة تعاني الجوع والفقر والأمية والقهر والظلم والاستبداد والفساد، تكد قليلا لكنها كثيرا ما تنافق وتتملق وتكذب وترائي وتبيع حتى شرفها لكي تضمن لقمة عيش ممرغة في الوحل والمهانة.
ولا يقف الفساد عند هذه النواحي، بل يمتد إلى الحياة الاجتماعية للأمم والدول، مثل حياة المترفين وما يدور بداخلها من امتهان للكرامة الإنسانية، ومن مظاهر العبودية التي تذكر بالقرون الوسطى، وتمتد أدرع الفساد كالأخطبوط إلى كل مؤسسات الدولة على المستويين الأفقي والعمودي لتعتو في البلاد والعباد فسادا عندما تجد المناخ الملائم والتربة الخصبة والتغذية والرعاية ممن كان من المفروض فيهم أن يحاربوا هذا الفساد.
ورحم الله الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي الذي قال في مؤلفه 'النَّظَرَاتُ' في باب 'خِدَاعُ العَنَاوِينِ' قولا شافيا وكافيا عن الفساد:"لو كان بي أن أكتب لمحو الفساد من المجتمع الإنساني والقضاء على شروره وآثامه لما حركت يدا، ولا جردت قلما، لأني أعلم كما يعلم الناس جميعا أن طلب المحال عثرة من عثرات النفوس، وضلة من ضلالات العقول، ولكنني أطلب مطلبا واحدا لا أرى في عقول الناس وأفهامهم ما يحول بينهم وبين تصوره وإدراكه، أن يهذبوا قليلا من هذه المصطلحات التي أنسوا بها، والعناوين التي جمدوا عليها، فلا يسمون المنافق تقيا، ولا المخادع وطنيا، ولا المتمجد ماجدا، ولا البخيل غنيا، ولا المفلوك مجرما، ولا المتوحش متمدينا، حتى لا ينزع محسن عن إحسانه، ولا يستمر مسيء في إساءته".
ويا ما قال وكتب الشعراء عن الفساد والمفسدين على مر الدهور والعصور حتى جفت محاجرهم ومحابرهم، فغيبهم الموت وصاروا ترابا وعظاما، وبقي الفساد من بعدهم يعثو في البلاد والعباد خرابا، منتشيا بالانتصار ومستهزئا بأشعارهم وأقوالهم وأفكارهم وقيمهم وأخلاقهم، فها هو ذا ابن النقيب يقول:
نَهَيْنَاهُ عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ فَمَا انْتَهَى وَلاَ رَدَّهُ رَدْعٌ وَعَادَ وَعَادَى
وُقُلْنَا لَهُ دُنْ بِالصَّلاَحِ فَقَلَّمَا رَأَيْنَا فَتىً عَانَى الْفَسَادَ فَسَادَا
وها هو ابن الوردي يقول:
قَالُوا فَسَادُ الْهَوَاءِ يُرْدِي فَقُلْتُ يُرْدِي هَوَى الْفَسَادِ
كَمْ سَيِّئَاتٍ وَكَمْ خَطَايَا نَادَى عَلَيْكُمْ بِهَا الْمُنَادِي
وها هو ذا أبو العلاء المعري يقول:
قَدْ تَرَامَتْ إِلَى الفَسَادِ الْبَرَايَا وَاسْتَوَتْ فِي الضَّلاَلَةِ الأَدْيَانُ
أَنَا أَعْمَى فَكَيْفَ أُهْدَى إِلَى الْمَنْـ ـهَجِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عُمْيَانُ
وها هو ذا ولي الدين يكن يقول:
يَا وَطَناً قَدْ جَرَى الْفَسَادُ بِهِ مَتَى يُرِينَا إِصْلاَحُكَ الزَّمَنُ
دُفِنْتَ حَيًّا وَمَا دَنَا أَجَلٌ مَا ضَرَّ لَوْ دَافِنُوكَ قَدْ دُفِنُوا
وها هو ذا أمين بن خالد آغا بن عبد الرزاق آغا الجندي يقول:
وَقَوْمٌ غَضَّ طَرْفُ الدَّهْرِ عَنْهُمْ فَآذَوْا كُلَّ ذِي عِرْضٍ وَعَادُوا
وَفِي ظُلُمَاتِ ظُلْمٍ حَقٍّ سَارُوا فَسَادُوا عِنْدَمَا ظَهَرَ الْفَسَادُ
وَإِنْ قَالُوا سَنَرْجِعُ حَيْثُ كُنَّا مَخَافَةَ أَنْ تَذُمَّهُمُ الْعِبَادُ
وَإِنْ طَلَبُوا رُجُوعَهُمْ عِنَاداً فَمَا صَدَقُوا وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا
وها هو ذا علي بن المقرب العيوني يقول:
إِنَّمَا تُدْرَكُ غَايَاتُ الْمُنَى بِمُسَيَّرٍ وَطَعَّانٍ وَجَلاَّدِ
مَنْ نَصِيرِي مِنْ زَمَانٍ فَاسِدٍ جَعَلَ الأَمْرَ إِلَى أَهْلِ الْفَسَادِ
كُلَّمَا قُلْتُ لَهُ ذَا سَرَفٌ فِي التَّعَدِّي قَالَ هَذَا اقْتِصَادِي
وها هو ذا علاء الدين علىّ الأوتارىّ الدمشقىّ يقول:
غَيْرَ أَنَّ الفَسَادَ يُكْسِبُ ذُلاًّ وَيُعَمِّي الْفَسَادُ طُرُقَ السَّدَادِ
وَارْتِكَابُ الْفَسَادِ يُورِثُ فَقْراً وَخَرَابُ الْبُيُوتِ عُقْبَى الْفَسَادِ
وها هو ذا عرقلة الكلبي يقول:
لُصُوصَ الشَّامِ تُوبُوا مِنْ ذُنُوبٍ تُكَفِّرُهَا الْعُقُوبَةُ وَالصِّفَادُ
لَئِنْ كَانَ الْفَسَادُ لَكُمْ صَلاَحاً فَمَوْلاَنَا الصَّلاَحُ لَكُمْ فَسَادُ
وها هوذا الطغرائي يقول:
جَامِلْ أَخَاكَ إِذَا اسْتَرَبْتَ بِوِدِّهِ وَانْظُرْ بِهِ عَقِبَ الزَّمَانِ الْعَائِدِ
فَإِنِ اسْتَمَرَّ بِهِ الْفَسَادُ فَخَلِّهِ فَالْعُضْوُ يُقْطَعُ لِلْفَسَادِ الزَّائِدِ
******
مَا خَطَّطَ الدِّينُ التُّخُومَ لِأُمَّةٍ إِلاَّ وَقَدْ نَخرَ الفَسَادُ عِظَامَهَا
وها هو ذا أحمد شوقي يقول:
عَمَّ الْفَسَادُ وَأَصْبَحَتْ طُرُقُ الغِنَى وَقْفاً عَلَى مَنْ يَرْتَشِي أَوْ يَعْتَدِي
وَعَلَى الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ بعِرْضِهِمْ مَا بَيْنَ شَارٍ رَائِحٍ أَوْ مُغْتَدِي
وها هوذا محمد الأسمر يقول:
أَمَّا الشَّرِيفُ أَخُو الإِبَاءِ فَإِنَّهُ يُمْسِي وَيُصْبِحُ كَالذَّلِيلِ الْمُجْتَدِي
إِنَّ الأَسَاسَ لِكُلِّ بَانٍ مُصْلِحٍ هَدْمُ الْفَسَادِ وَدَقُّ رَأْسِ الْمُفْسِدِ
هوامش:
* مقولة لسعد زعلول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق