لاَ تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرْفٍ وَلاَ نَفَسٍ وَإِنْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ وَالْحَرَسِ
فَمَا تَزَالُ سِهَامُ الْمَوْتِ نَافِذَةً فِي جَنْبِ مُدَّرِعٍ مِنْهَا ومُتَّرِسِ
أَرَاكَ لَسْتَ بِوَقَّافٍ وَلاَ حَذِرٍ كَالْحَاطِبِ الْخَابِطِ الأَعْوَادَ فِي الْغَلَسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
أَنَّى لَكَ الصَّحْوُ مِنْ سُكْرٍ وَأَنْتَ مَتَى تَصِحُّ مِنْ سَكْرَةٍ تَغْشَاكَ فِي نَكَسِ
مَا بَالُ دِينِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّسَهُ وَثَوْبُكَ الدَّهْرَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنَسِ
حلت الذكرى 809 لمعركة العُقاب التي وقعت بتاريخ 16 يوليوز 1212 بين إمبراطورية الموحدين بالمغرب الأقصى والاتحاد النصراني الصليبي بالأندلس، وحلت الذكرى 826 لمعركة الأرك التي وقعت بتاريخ 18 يوليوز 1195 بين دولة الموحدين وقوات ملك قشتالة الصليبي ألفونسو الثامن.
ففي الوقت الذي وصل فيه البرتغاليون إلى رأس الرجاء الصالح بأقصى جنوب القارة الأفريقية، ووصل فيه كريستوف كولومبوس إلى القارة الأمريكية، كان الحكم العربي بالأندلس ينهار تباعا كقطع الدومينو حتى سقوط آخر معاقلهم غرناطة، فعاد المغاربة يجرون ذيول الهزيمة المرة والانكسار والانهيار والخيبة إلى موطنهم بشمال أفريقيا وهم يَبْكُونَ بُكَاءَ النِّسَاءِ عَلَى مُلْكٍ مُضَاعٍ لَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ كَالرِّجَالِ*.
ففي الوقت الذي وصل فيه البرتغاليون إلى رأس الرجاء الصالح بأقصى جنوب القارة الأفريقية، ووصل فيه كريستوف كولومبوس إلى القارة الأمريكية، كان الحكم العربي بالأندلس ينهار تباعا كقطع الدومينو حتى سقوط آخر معاقلهم غرناطة، فعاد المغاربة يجرون ذيول الهزيمة المرة والانكسار والانهيار والخيبة إلى موطنهم بشمال أفريقيا وهم يَبْكُونَ بُكَاءَ النِّسَاءِ عَلَى مُلْكٍ مُضَاعٍ لَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ كَالرِّجَالِ*.
وتعتبر
هذه الفترة بداية تحول جد خطيرة في تاريخ المغرب نظرا للأحداث العظمى التي ستقع
بعد ذلك ولم تكن معظمها في صالح البلاد، فحتى القرن الثالث عشر الميلادي كانت دولة
الموحدين القوية تسيطر على إقليم الأندلس وما يسمى حاليا بالمغرب الأقصى والجزائر
وتونس وليبيا وموريتانيا والسنغال، ولم تكن هنالك قوة أوروبية بإمكانها أن تقف في
وجه سادة المغرب أو تنازعهم سلطانهم أو تقارن إمكاناتها العسكرية والاقتصادية
بإمكاناتهم.
ولعل خير دليل على قوة الموحدين هو معركة الأرك التاريخية التي وقعت في 18 يوليوز 1195 م بين قوات الموحدين بقيادة السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور وقوات ملك قشتالة ألفونسو الثامن، وكان لهذه المعركة دور كبير في توطيد حكم الموحدين في الأندلس وتوسيع رقعة بلادهم فيها، مما اضطر معه ألفونسو الثامن أن يطلب الهدنة ذليلا صاغرا من السلطان الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور، وقد اعتبر الكثير من المؤرخين أن معركة الأرك تضاهي في ما أحرزته من انتصار ونتائج باهرة معركة الزلاقة وفي وقع الهزيمة القاسي على مسيحيي أيبيريا، الذين اعتبروا هذه المعركة كارثة حلت بهم.
ويروي المؤرخ المغربي محيي الدين عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي رحمه الله عن هذه المعركة: "قَصَدَ بطرو بن الريق -لعنه الله- مدينة شلب من جزيرة الأندلس فنزل عليها بعساكره، وأعانه من البحر الإفرنج بالبطس والشواني، وفي التاسع من شهر شعبان سنة 591هـ موافق 1195م وعند هذا الحصن الكبير الذي يقع في جنوب طليطلة على الحدود بين قشتالة ودولة الأندلس، في ذلك الوقت التقت الجيوش الإسلامية مع جيوش النصارى هناك، وكان ألفونسو الثامن قد أعدَّ جيشه بعد أن استعان بمملكتي ليون ونافار، في قوَّةٍ يبلغ قوامها 225 ألف نصراني، وقد أحضروا معهم بعض جماعات من اليهود لشراء أسرى المسلمين بعد انتهاء المعركة لصالحهم، ليتمَّ بيعهم بعد ذلك في أوروبا، وعلى الجانب الآخر فقد أعدَّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي جيشًا كبيرًا، بلغ قِوَامه 200 ألف مسلم من جرَّاء تلك الحمية، التي كانت في قلوب أهل المغرب وأهل الأندلس على السواء، خاصة بعد انتصارات المسلمين في حطين (583هـ موافق 1187م) في الشرق، وكان قد وَجَّه إليهم يستدعيهم إلى أن يُعِينُوه على أن يجعل لهم سبي البلد، وله هو المدينة خاصة، ففعلوا ذلك ونزلوا عليها من البر والبحر فملكوها، وسبوا أهلها، وملك ابن الريق -لعنه الله- البلد، وتجهَّز أمير المؤمنين في جيوش عظيمة، وسار حتى عبر البحر، ولم يكن له هَمٌّ إلا مدينة شلب المذكورة، فنزل عليها، فلم تطق الروم دفاعه، وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها، ولم يكفِهِ ذلك حتى أخذ حصنًا من حصونهم عظيمًا يقال له طرش".
ويروي أيضا عن نتائج معركة الأرك المؤرخ الجزائري شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقري رحمه الله: "وكان عدد مَنْ قُتِل من الفرنج فيما قيل 146 ألفًا، وعدد الأسرى 30 ألفًا، وعدد الخيام 156 ألف خيمة، والخيل 80 ألفًا، والبغال 100 ألف، والحمير 400 ألف، جاء بها الكفَّار لحمل أثقالهم لأنَّهم لا إبل لهم، وأمَّا الجواهر والأموال فلا تُحصى، وبِيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقَسَّم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا ألفونسو ملكُ النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال، فحلق رأسه ولحيته ونكس صليبه، وآلى ألا ينام على فراش، وألا يقرب النساء، وألا يركب فرسًا ولا دابَّة حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدُّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه، وسار خلفه إلى طُلَيْطِلَة وحاصره، ورمى عليها بالمجانيق، وضيَّق عليها، ولم يبقَ إلا فتحُها، فخرجت إليه والدة ألفونسو وبناته ونساؤه وبَكَيْنَ بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقَّ لهن ومَنَّ عليهن بها، ووهب لهنَّ من الأموال والجواهر ما جَلَّ، وردَّهُنَّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قُرْطُبَة، فأقام بها شهرًا يُقَسِّم الغنائم".
توفى السلطان يعقوب المنصور عام 595هـ موافق 1199 م بعد أن جاهد بالسيف وحرص على إصلاح عقائد الموحدين وتنقيتها من الخرافات والخزعبلات، وتولى من بعده الحكم إبنه محمد بن يعقوب بن يوسف الملقب بالناصر، واستطاع أن يقضي على ثورة بني غانية وأن يوحد المغرب كله الأقصى والأوسط والأدنى، ثم عبر بجيوش ضخمة جبل طارق قاصداً جهاد النصارى في الأندلس، فانهزم شر هزيمة في معركة العُقاب عام 609هـ الموافق 1212 م أمام الجحافل النصرانية القوية المتحدة فيما بينها، فعاد إلى المغرب يجر ذيول الخيبة والهزيمة المرة، ثم انهمك في الشهوات والملذات حتى قُتِل مسموماً عام 910هـ الموافق 1213 م.
بعد الهزيمة النكراء الفادحة للموحدين في معركة العُقاب توغل النصارى في مدن وقرى المسلمين بالأندلس مرتكبين أبشع المجازر البشرية من قتل وهتك للأعراض وسبي للنساء يتقدمهم رجال الدين من القساوسة بالأناشيد والتشجيع على استئصال شأو المسلمين من ديار الأندلس.
وبذلك تعتبر معركة العُقاب بداية الانهيار الفعلي لدولة الموحدين ولصولة الإمبراطورية المغربية القوية الْمُهابة الجانب، ولقد كان لصغر سن محمد بن يعقوب وقلة خبرته وإعجابه بنفسه وتسلط الوزير ابن جامع عليه من أهم الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هزيمة معركة العُقاب المدوية، إضافة لعوامل أخرى تجلت في الظلم الكبير من بطش وتقتيل بلا رحمة ولا شفقة الذي ارتكبه الموحدون بحق المرابطين، والثورات المتتالية في الأندلس والمغرب الأقصى والأوسط على حكام الدولة الموحدية، والنزاع على الحكم وتحوله إلى حكم بالوراثة، وضعف ولاء المسلمين لحكام دولة الموحدين لما ظهر فيهم من فساد على جميع الأصعدة والمستويات، وانحراف عن المنهج السليم في الحكم، وظلم عظيم للمستضعفين.
لقد كانت الإمبراطورية الموحدية تسيطر على معظم تجارة إفريقيا السوداء والشرق الأقصى من خلال سيطرتها على طرق القوافل، تبتدأ من المدن المغربية المعروفة مثل فاس ومراكش وغيرها، لتتوغل في الداخل نحو الجنوب مارة بالواحات إلى أن تصل إلى أفريقيا السوداء، وكذا الشأن كان بالنسبة للقوافل المتجهة نحو الشرق خاصة منها قوافل الحجاج إلى مكة المكرمة، ولقد أثرى المغرب من هذه التجارة المربحة إثراء عظيما، مكن من ازدهار العمران وارتفاع مستوى التحضر، غير أن طبيعة الحكم الإقطاعية الاستبدادية لم تكن تسمح باقتسام الثروة والسلطة، إذ كان الجزء الأكبر من الثروة يصل إلى جيوب السلاطين وبطانتهم، ولا يتبقى للشعب سوى الفتات، ولم يكن هذا الوضع الغير طبيعي ليستمر لولا تلكم الصفات الدينية التي كان يمنحها سلاطين المغرب لأنفسهم قصد تخدير الشعب حتى لا يسـأل عما يدخل جيوب السلاطين وحاشياتهم وقصورهم، وإبعاده عن المشاركة في الحكم حتى لا يطالب باقتسام الثروة.
لذلك وبمجرد ما ظهرت بوادر الضعف على دولة الموحدين، حتى تم تمزيق البلاد وتحويلها إلى مجموعة متنافرة ومتناحرة من الإمارات والسلطنات والمماليك، وكل ذلك كان باسم الدين، وهكذا ظهرت سلطنة بني مرين في المغرب الأقصى التي تحملت العبئ الكبير في صد الهجمات المتكررة والمستنزفة للصبليون (الإسبان) والبرطقيز (البرتغاليون)، كما ظهرت إمارة بني حفص في تونس، ثم ظهرت في المغرب الأوسط (ما يسمى حاليا بالجزائر) إمارة بني عبدالواد الذين اتخذوا تلمسان عاصمة لهم.
ولقد عرفت هذه الفترة كثرة الحملات والمنازعات بين هذه الأقاليم الثلاث استنادا إلى القوة العسكرية وقرارات الحكام الممسكين بمفاتيح السلطة والمتمسكين بكراسيها، مما أدى إلى استنزاف جزء هام من ثروة البلاد، وإلى تواري أنوار العلوم والآداب والمعارف، وكساد التجارة وضعف كبير في مداخيلها، وقلة الحرف والصناعات، وانتشار العصابات من قطاع الطرق، وانحطاط في المستوى الأخلاقي والاجتماعي، في حين كانت الضفة الأخرى من المتوسط بغرب أوروبا المسيحية قد بدأت تتوهج بأنوار العلوم والمعارف وبمؤلفات الفلاسفة والمفكرين حول الحرية والعدالة الاجتماعية واقتسام الثروة والسلطة بين الحاكم والمحكوم، مما نتج عنه تغير جذري في موازين القوى بين ضفتي المتوسط لصالح أوروبا النصرانية.
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى انهيار دولة الموحدين ناهيك عن الضربة التي قسمت ظهرهم في معركة العُقاب، وعن تنازع أمراء الدولة الموحدية وخروج بعض الولاة عن السلطة المركزية، وتزايد الأطماع الخارجية خاصة من طرف البرطقيز والصبليون، هو انفصال الرأس (الحكام) عن الجسد (الشعب)، من خلال استئثار حكام الموحدين بالسلطة والثروة دون بقية الشعب.
وبهذا تكون الإمبراطورية الموحدية أعظم دولة إسلامية قامت في تاريخ المغرب، لما كان لها من سعة الرقعة، والقوة العسكرية والقوة الاقتصادية وبسط النفوذ، قد توارت إلى الأبد عن التأثير في مسرح أحداث التاريخ بلا رجعة إلى يومنا هذا، وتلك سنة الله في الخلق ولن تجد لسنة الله تبديلا.
هوامش:
"إِبْكِ مِثْلَ النِّسَاءِ مُلْكاً مُضَاعاً لَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ كَالرِّجَالِ": المقولة المدوية لعائشة الحرة التي وبخت فيها إبنها أبو عبدالله الصغير آخر ملوك الطوائف بالإندلس الذي بكى بدموع الندم والحسرة والأسى على هذا المصاب الجلل.