من أعظم أسباب انحطاط المسلمين فقدهم كل ثقة بأنفسهم

من أعظم أسباب انحطاط المسلمين فقدهم كل ثقة بأنفسهم
الحديث عما آلت إليه أحوال المسلمين في العصور المتأخرة حديث ذو سجون، لدرجة أني أشعر أحيانا بالحيرة وأكاد لا أصدق المصاب الجلل الذي ضرب هذه الأمة في مقتل، فتتدافع الأفكار في رأسي للخروج دفعة واحدة للتعبير عما يجيش بخاطري، إلا أنها جميعها تصرخ وتصيح بكل ما أُوتِيَتْ من قوة بلسان واحد: كيف لأمة كان يُضرب بها المثل في العلوم الدينية والدنيوية وقادت العالم بالأمس أن تصل اليوم إلى ما آلت إليه من انحطاط وتقهقر ودونية حضارية، وتخلف على جميع الأصعدة الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية والفكرية والاقتصادية والعسكرية؟
من خلال هذه التدوينة سوف أحاول أن  أسرد البعض من هذه الأسباب التي كانت وراء انحطاط وتقهقر المسلمين بعيدا عن الديماغوجية الفارغة للفهايمية الذين يظنون أنفسهم أوصياء علينا وأنا شخصيا منهم بُرَاءٌ ولا يمتون لي بصلة من قريب أو بعيد، ومستشهدا بعد ذلك بآراء علماء أجلاء ومفكرين من أبناء الأمة الأحرار الصادقين الأوفياء البررة لعقيدتهم ودينهم قبل أوطانهم القطرية وانتماءاتهم الحزبية الضيقة ومعتقداتهم الإيديولوجية، فما هي أهم الأسباب التي كانت وراء ذلك؟ :
ü تمزق الأمة الإسلامية وذهاب ريحها لما سقطت دولتها الجامعة وتبددت قوتها، وأصبحت مجرد دويلات قزمية عبارة عن فسيفساء متناثرة ومتنافرة لا حول ولا قوة لها، ففقدت قرارها واستقلاليتها، وبسط العدو نفوذه بطرق مباشرة أو غير مباشرة على الكثير منها، فاستنزف ثرواتها، وسلب خيراتها، وجَهَّلَ واستعبد وأذل عن سابق إصرار وترصد أبناءها، وزرع الشحناء والبغضاء بين أهلها، الذين أصبحوا يعيشون في حروب داخلية متواصلة فيما بينهم، مما أفقدهم أي قوة وعزيمة وإرادة صلبة للمواجهة مع العدو،  
ü انتشار الهزيمة النفسية المدوية للمسلمين أمام الأعداء بين أفراده وجماعاته ودوله بشكل وبائي لم يسبق له نظير، وشعورهم بالإحباط والدونية الحضارية أمام الغرب المسيحويهودي، ولعمري إن هذه الكارثة تعد أكبر وأخطر ما ابتليت به الأمة في العصر الحديث، لدرجة أن معظم المسلمين صارت لديهم قابلية بأن يُسْتَعْبَدُوا ويُذَلُّوا وحتى يُسْتَعمَرُوا من طرف أعدائهم دون أن يحركوا ساكنا، لقد صرنا مع كامل الأسف أمة حية ميتة من بعدما قدنا العالم في زمن الكرامة والعزة والشموخ،
ü تغلغل الأفكار الهدامة والأحزاب والجمعيات التي تتبنى مناهج دخيلة وغريبة عن الإسلام، ومنافية تماما لتعاليمه بدعوى ما يُسمى بالتنوير والحداثة والعصرنة والعلمنة والانبهار بالغرب الصليبي، وتم ذلك في ظل دعم مادي ومعنوي لا محدود من طرف أعداء الإسلام، وفي ظل غفلة أو تخاذل أو تواطئ من علمائه، وجهل من أبنائه، الذين ساروا في طريق التراجع عن الإسلام، بفعل خفوت نور الإيمان في قلوبهم نتيجة حملات التشكيك والهدم المتواصلة على قدم وساق، وبفعل الجرعات السمية القاتلة من الإعلام الساقط الهابط من تلفاز ومجلات وجرائد وإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وقنوات فضائية،
ü ظهور بعض الشخصيات التي تتبوأ مناصب عليا جد حساسة في الحكم، يتم تلميع صورها وترويجها إعلامياً من قبل أعداء الدين والملة ليظهروا بمظهر المصلحين الحريصين على مصلحة الوطن، إلا أنهم على النقيض من ذلك وينطبق عليهم قول الله تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ" (سورة البقرة، الآيتان 11 و 12) ، ليقوموا بعد ذلك بتنفيذ مخططات أعداء الإسلام التخريبية والتدميرية في المجتمع،
ü إقصاء الشريعة الإسلامية من الحكم وتنحيتها من الواقع المعاش للمسلمين، وحصر الإسلام في طقوس تعبدية باردة لا تأبه بأحوال المسلمين المتداعية على كل الأصعدة، ولا تأبه بشقائهم وعذابهم الدنيوي، وتقزيم الدين وتحنيطه ودفنه بين أربعة جدران داخل المساجد، 
ü قيام معظم الدول الإسلامية بنقل دساتير لبلدان لا ترقب في المسلمين إلا ولا ذمة، وترجمتها أحيانا ترجمة ببغائية غبية لحكم المسلمين بها، وأحيانا مزجها بتشريعات إسلامية في خليط هجين ومتنافر، لدرجة أن هذه البلدان نسيت مشية الحمامة عندما أرادت تقليد مشية الغراب،
ü افتتان جماهير من المسلمين بالثقافات والقيم والعادات الغربية، خاصة منهم الشباب، وسعيهم في تقليدها في كل شيء حتى في الأمور التي لا يتقبلها لا العقل ولا المنطق ولا الفطرة السليمة، فما بالك بالدين الإسلامي الحنيف، فتراهم يقلدون المخنثين والشواذ والحثالات مممن يسمون بالفنانين والرياضيين تقليدا غاية في الغباء، ولا يلتفتون ولو التفاتة واحدة للنماذج الثائرة في التاريخ الإسلامي التي تبعد عن هؤلاء الكراكيز بعد السماء عن الأرض في درجات السمو والنبل الإنساني،
ü تهافت الناس على حب الدنيا وانشغلاهم طوال حيواتهم القصيرة بشهواتها وملذاتها، وانصرافهم عن معالي الأمور والقدوات الصالحة، وانشغالهم بالسفاسف والخزعبلات والتفاهات التي تقتل في الإنسان مبادرة النقد البناء وروح الإبداع والابتكار، وتحوله إلى مجرد آلة مستهلكة لا تشبع ولا ترتوي، وهالكة في نفس الوقت  لباقي مخلوقات الخالق جل وعلا.  
تساءل الأستاذ والسياسي والمفكر والقائد والمحارب علي عزت بيغوفيتش الرئيس السابق لدولة البوسنة والهرتسك رحمه الله في كتابه القيم 'الإسلام بيين الشرق والغرب' عن الأسباب التي أدت بالمسلمين إلى الانحطاط بالصورة التي نراهم عليها اليوم، وأجاب هو نفسه عن تساؤله بقوله: "لقد انشطرت وحدة الإسلام ثنائية القطب على يد أناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرد، فأهدروا وحدته وهي خاصيته التي ينفرد بها دون سائر الأديان، لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية، فتدهورت أحوال المسلمين، وذلك لأن المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون دورهم في هذا العالم ويتوقفون عن التفاعل معه تصبح السلطة في الدولة المسلمة عارية لا تخدم إلا نفسها، ويبدأ الدين الخامل يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية المغيبة، والشعراء السكارى، يشكلون جميعًا الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام".
أما في مؤلفه 'هروبي إلى الحرية' فيتحدث المرحوم علي عزت بيغوفيتش بمرارة عن حال المسلمين ويطرح أسئلة جوهرية ومعقدة من الصعب الإجابة عليها قائلا: "تحدثنا حتى الآن عن الخسائر والهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لكي نتحدث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا وبهذا ستكون بداية نضجنا، عندما أفكر بأحوال المسلمين في العالم، فعادة ما يكون موضوع سؤالي:هل نلنا المصير الذي نستحق؟ وهل الآخرون مسؤولون عن أوضاعنا وخسائرنا؟ إذا كنا نحن مذنبين-وأرى بأننا كذلك-فما الذي لم نقم به، وكان ضروريا فعله، أو بالأحرى ما الذي فعلناه وكان علينا ألا نفعله؟ هذان سؤالان ضروريان بالنسبة لي، عندما يتعلق الأمر بأوضاعنا التي لا نحسد عليها.
فلماذا لا تكون الشعوب التي تقوم صلاتها على النظافة وترتبط بالمراجعة الدائمة للوقت مثالا للنظافة والدقة؟ ولماذا لا تصبح الشعوب التي تمتنع عن الطعام والشراب ثلاثين يوما في العام مثالا للمبدئية؟ لماذا لم تحولهم التجربة الصعبة والقاسية طوال أربعة عشر قرنا من النظافة والدقة والمبدئية إلى طبيعة أخرى أو حتى إلى ذهنية دائمة؟ إن من يقدم جوابا مقنعا عن هذين السؤالين يستحق جائزة نوبل".
أما أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله فيقول عن أسباب انحطاط المسلمين في مؤلفه القيم 'لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟': "من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل ثقة بأنفسهم وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلا أودى به، ولا على أمة إلا ساقها إلى الفناء، وكيف يرجو الشفاء عليل يعتقد بحق أو بباطل أن عِلَّتَهُ قَاتِلَتَهُ؟ وقد أجمع الأطباء في الأمراض البدنية أن القوة المعنوية هي رأس الأدوية، وأن أعظم عوامل الشفاء إرادة الشفاء، فكيف يصلح المجتمع الإسلامي ومعظم أهله يعتقدون أنهم لا يصلحون لشيء، ولا يمكن أن يصلح على أيديهم شيء، وإنهم إن اجتهدوا أو قعدوا فهم لا يقدرون أن يضارعوا الأوروبيين في شيء.
وكيف يمكنهم أن يناهضوا الأوروبيين في معترك وهم موقنون أن الطائلة الأخيرة ستكون للأوروبيين لا محالة، وهكذا أصبح المسلمون في الأعصر الأخيرة يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا سينتهي بصراع المسلم ولو طال كفاحه، وقر ذلك في نفوسهم وتخمر في رؤوسهم، لا سيما هذه الطبقة التي تزعم أنها الطبقة المفكرة العاقلة المولعة بالحقائق الصافية عن الخيالات، وصارت تقرر هذه القاعدة المشؤومة في كل ناد، وتجعل التشاؤم المستمر والنعاب الدائم من دلائل العقل وسعة الإدراك، وتحسب اليأس من صلاح حال المسلمين من مقتضيات العلم والحكمة، وما زالت تنفخ في بوق التثبيط، وتبث في سواد الأمة دعاية العجز، إلى أن صار الاستخذاء دَيْدَن الجميع إلا من رحم ربك، وكانت روحه من أصل فطرتها قوية عزيزة.
ولم تقتصر هذه الفئة على القول بأن حالة المسلمين الحاضرة هي متردية ومتدنية لا تقاس بحالة الإفرنج في قليل ولا كثير، بل زعمت أن التعب في مجاراة المسلمين للإفرنج في علم أو صناعة أو كسب أو تجارة أو زراعة أو حرب أو سلم أو أي منحى من مناحي العمران هو ضرب من المحال، وكأن المسلمين من طينة والإفرنج من طينة أخرى، فعلو الإفرنج على المسلمين أمر لا بد منه، وكأنه كتب في اللوح المحفوظ وجف به القلم، ولم يبق أمام المسلمين إلا أن يعلموا كونهم طبقة منحطة عن طبقة الإفرنج ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة".
ويُضيف أمير البيان شكيب أرسلان بأن سبب تأخر المسلمين هو الجهل، والعلم الناقص، وفساد الأخلاق، وسكوت العلماء على الضلال والطغيان، يقول في ذلك: "هذا والعامة المساكين مخدوعين بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، يظنون فتاويهم صحيحة وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتميز.. حتى يجدون في كثير من المنعمين وسيلة إلى الخديعة والفساد"، ويُضيف قائلا: "فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد". 
ويسترسل الأمير شكيب أرسلان في تعرية وفضح موبقات متمسلمي هذا العصر وما فعلوه بالإسلام الذي هو بريء منهم قائلا: "لم يبقَ من الإيمان إلا إسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومن القرآن إلا الترنيم به، دون العمل بأوامره ونواهيه.. واليوم فَقَدَ المسلمون أو أكثرهم هذه الحماسة التي كانت عند آبائهم، وإنما تخلق بها أعداء الإسلام الذين لم يوصهم كتابهم بها، فنجد أجنادهم تتوارد على حياض المنايا سباقا، وتلتقي الأسنة والحراب عتاقًا"، ويتحدث عن التضحية في خدمة الوطن والأمم الإسلامية فيقول: "تريد حفظ استقلالها بدون مغاداة ولا تضحية، ولا بيع أنفس ولا مسابقة إلى الموت، ولا مجاهدة بالمال، وتطالب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر، فإن الله سبحانه يقول: "وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ" ويقول: "إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"، ويتحدث عن غزو الطليان لطرابلس الغرب بليبيا، ونشيد الشباب الإيطالي غداة الحرب عندما يصيحون: "يا أماه أتممي صلاتك ولا تبكي بل إضحكى وتأملي، ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحًا مسرورًا لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلطان، سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن، ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطاليا حقًّا".
وعن قعود المسلمين عن نصرة المجاهدين بالأموال والأرواح فيقول الأمير شكيب أرسلان: "وأما خيانة المسلمين بعضهم لبعض، وخذلان إخوانهم والتزلف للأجنبي، قد بسط من أمره في الريف وفي فلسطين كجنود شرق الأردن ما يؤلم ويوجع، وسبب استئساد الأجنبي هو تبرع ابن الملة في مظاهرته وتحكمه"، ثم يجعل الموت لأجل الحياة بطولة وفداء فيقول: "وأما الموت الثاني فهو الموت لأجل استمرار الموت، وهو الذي يموته المسلمون في خدمة الدول التي استولت على بلادهم، وذلك أنهم يموتون حتى ينصروها على أعدائها، كما يموت المغربي حتى ينتصر الفرنسيس على ألمانيا مثلًا، ويموت الهندي حتى يتغلب الإنجليز على أي عدو لهم، ويموت التتري في سبيل ظفر الروس، والحال أن انتصار الفرنسيس على أعدائهم يزداد في المغرب غطرسة وظلمًا وابتزازًا لأملاك المسلمين وهضمًا لحقوقهم".
أما الدكتور عبدالودود شلبي رحمه الله فيقول في مؤلفه 'عرب ومسلمون للبيع': "مأساة المآسي التي يعيشها العالم الإسلامي أنه غريب بين الشرق والغرب، لم تعد له دولة مرهوبة، ولا علم مرتفع يلتف حوله، ومنذ سقط حكم آل عثمان، تسلط على المسلمين أمثال أتاتورك، وزيف التاريخ لصالح الشيوعية والغرب، والمسلمون تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها..أيتام على مآدب اللئام..وغثاء كغثاء السيل فوق تلال الرمال، في الحياة لا تعرف للمسلمين نظاما للسلوك يتميزون به، وفي الحكم أمشاج قوانين وأخلاط نظم، وفي القوانين والتشريعات مزيج من الإيمان والكفر، وفي الاقتصاد تصطدم مشاعرك بلون أحمر فاقع يقشعر منه البدن، ولون فاتح يحرم فيه الإنسان من الأسودين الماء والتمر، وترف داعر يشرق فيه السادرون بالغواية والخمر، إنهم لا يقرؤون التاريخ..بل لا يستعملون حاستي السمع والبصر، تحسبهم أيقاظا وهم رقود..جميعا وقلوبهم شتى..على قلوبهم أكنة أن يفقهوه..وفي آذانهم وقر..وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها..حتى إذا أزفت الآزفة..وزلزلت الأرض من تحت أقدامهم فجأة..قالوا: يا ليتنا نرد..يقولون ذلك بعد فوات الأوان".
وأختم هذه المقالة بما قاله العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله في مؤلفه 'ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين' عن حال المجتمع ما قبل الإسلام ولنقارنه بحال المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر: "بُعِثَ محمد بن عبدالله (ص)  والعالم أصيب بزلزال شديد هزه هزا عنيفا، فإذا كل شيء في غير محله، فرأى إنسانا معكوسا قد فسدت عقليته، فلم تعد تُسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره، وفسد ذوقه، فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ولا يحب الصديق الناصح.
رأى مجتمعا هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح الذئب راعيا، والخصم الجائر قاضيا، وأصبح المجرم فيه سعيدا حظيا، والصالح محروما شقيا، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، رأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك.
رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع النهم، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد.
رأى ملوكا اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خَوَلاً (عبيداً)، ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا أربابا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم يُنتفعْ بها ولم تُوَجَّهْ التوجيهَ الصحيحَ، فعادت وَبَالاً على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الهمجية فتكا وهمجية، والجود تبذيرا وإسرافا، والأنفة حمية جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات.
رأى الأمم قطعانا من الغنم ليس لها راع، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه.
إن كل داء من أدواء المجتمع الإنساني وكل عيب من عيوب الجيل الحاضر يتطلب إصلاحه حياة كاملة، ويستغرق عمر إنسان بطوله، وقد يستغرق أعمار طائفة من المصلحين ولا يزول، فإذا ذهب أحد يطارد الخمر في بلاد نشأت على حياة الترف والبذخ ودانت باللهو واللذة، أعياه أمرها وحَبِطَتْ جهوده، لأن شرب الخمر ليس إلا نتيجة نفسية تعشق اللذة حتى في السم، وتبتغي النشوة حتى في الإثم، فلا تهجره بمجرد الدعاية والنشر والكتب والخطب وبيان مضاره الطبية ومفاسده الخلقية، وسن القوانين الشديدة والعقوبات الصارمة إلا بتغيير نفسي عميق، وإذا أُرْغِمَتْ على تركه بغير هذا التغيير تسللت إلى غيره من أنواع الجريمة أو استباحته بتغيير الأسماء والصور"، و"إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" سورة الرعد آية 11.
المراجع:
1-الإسلام بين الشرق والغرب-علي عزت بيغوفيتش
2-هروبي إلى الحرية-علي عزت بيغوفيتش
3-لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟-شكيب أرسلان
4-عرب ومسلمون للبيع-عبدالودود شلبي
5-ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين-أبو الأعلى المودودي