في الظل: الفيلم الذي عرى كل شيء

الفيلم الكارتوني القصير في الظل In Shadow من تأليف، إخراج وإنتاج الفنان البلغاري لوبومير أرسوف Lubomir Arsov، صدر سنة 2017، لا تتجاوز مدته 13 دقيقة فقط، وهو في حقيقة الأمر تحفة فنية هادفة من الطراز الرفيع، وَعُصَارَةٌ جِدُّ مُرَكَّزَةٍ لجميع ما يتخبط فيه خبط عشواء المجتمع البشري اليوم من فساد مستشر على نطاق واسع، وانحرافات وتداعيات مجتمعية  بالجملة،  ومظالم كثيرة تكاد تخر من هولها الجبال، استطاع من خلاله المؤلف بكل جرأة وشجاعة أن يأسر المتلقي قلبا وقالبا في رحلة استكشافية في الدهاليز والأنفاق المظلمة لنفسية الإنسان المعاصر المهزوزة، في ظل ظلامية الحضارة الغربية المدهونة وخوائها الداخلي، وهو فيلم قد يكون جد مزعج  وغير مناسب بتاتا بالنسبة لأغلبية البشر من المقنعين السعداء حول العالم.
يرسم الفيلم كل شيء كما يبدو في الواقع اليومي بإضافة لمسة رمادية تقترب من السواد إلى أحداثه، لأنه عندما ينزع الناس أقنعة الهوية ويعودون إلى قلوبهم كي يستفتوها، سوف يظهر لهم المراسلون الصحافيون والإخباريون والسياسيون ومشاهير السينما والفن والرياضة-الذين عادة ما يحاولون تقمص شخصية الإنسان السعيد والناجح والمتفوق والمتأنق والجميل واللطيف والاجتماعي- مجرد رسوم كاريكاتيرية انتهازية تخفي بشعاتها خلف الأقنعة،  تكشف من خلال هذه الأقنعة المتلونة كالحرباء بجميع ألوان قزح عن ابتسامتها الصفراء، في حين أن العوام المنومين والمتقاتلين فيما بينهم من أجل الظفر بالمنازل الكبيرة والسيارات الفاخرة وأحدث مخترعات التكنولوجيا وحفنة من الدولارات، ليسوا سوى سجناء داخل سجن كبير إسمه الحياة لا تتوفر فيه أدنى مقومات الكرامة الإنسانية. 
تطرق الفيلم إلى مجموعة واسعة من القضايا مثل: الانهيار الفظيع والمريع لمنظومة القيم والأخلاق في كل أرجاء المعمور، الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي لحكام وحكومات العالم، الاستغلال البشع للشركات الكبرى والأبناك الربوية لضعف الشعوب والأفراد أمام الإغراءات المادية والرشاوى أو لهشاشة أوضاعهم الاجتماعية، الهوس وجنون المال من أجل الربح السريع بدون جهد ولا عرق لدى الغالبية الساحقة من البشر، الانتشار المتزايد باطراد لآفة المخدرات والمهلوسات والخمور التي أفسدت الشباب ودمرت روحه وأفسدت عقله، التفشي الخطير للعنف الاجتماعي-الذي يستمد جذوره ودمويته ووحشيته من السينما والتلفزيون وألعاب الفيديو-حتى بين الأطفال الصغار والمراهقين، التسليع الممنهج لجسد المرأة على المستوى العالمي من طرف عَرَّابِي الفساد، وعرض هذا الجسد عاريا للبيع في سوق النخاسة العالمي في اللوحات الإشهارية المثبتة بجميع شوارع العالم، وعلى شاشات البلاسما الضخمة وفي كل ما له علاقة بالإشهار وغير ذلك، النفخ قي نيران التوترات العرقية والنعرات الطائفية والحروب من طرف تجار السلاح من أثرياء ومترفي الحروب، التعتيم والتلاعب الإعلامي بالجماهير الْمُعْتَمِد بالدرجة الأولى على استراتيجية الإِلْهَاءِ كعنصر أساسي في الرقابة الاجتماعية لتحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والمصيرية للشعوب، وعن التغييرات التي تقررها وتنفذها النخب السياسية والاقتصادية من أجل مصالحها، وكل ذلك يتم من خلال إغراق الشعوب بطوفان مستمر من التفاهة المتجلية في اللهو والتسلية والترفيه والمهرجانات والسهرات والحفلات والمسابقات والمعلومات التي تبدو براقة المنظر جميلة المظهر غير أنها مجرد أعجاز نخل خاوية تأدن بالخراب.
ونتيجة كل هذا العبث والتفاهة والظلامية التي تخيم على أجواء العالم، انتشر الاغتراب والاكتئاب والانتحار على نطاق واسع بين الناس اليوم من سن السابعة حتى السابعة والسبعين.
وبالرغم من كل هذه الإخفاقات والمعاناة بالجملة التي تكاد تخنق أنفاس العالم، يحاول الناس أن ينافقوا ويضعوا أقنعة السعادة كي يظهروا للآخرين على أنهم سعداء كَذِباً وافتراءً، لأنهم بكل بساطة يتفادون الاصطدام بما يختلج في أعماق دواخل أنفسهم، ويرفضون ويقمعون أي حديث نابع وصادر من صميم القلب، ولا يرغبون حتى مجرد النظر إلى الحقيقة التي تكاد تغشى الأبصار، وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وللمرء أن يتساءل هل يمكن لأي شخص حقا أن يكون سعيدًا حقًا دون إزالة قناعه، ودون الغوص في أعماق وعيه ووجدانه كي يستمد النور من جوهره الداخلي من خلال الحب والإبداع والارتباط ارتباطا بريئا بدون نفاق ولا انتهازية ولا جشع بكل ما له علاقة بالحياة والأحياء والكون؟
أَسَرَنِي كثيرا هذا الفيلم الفني الرائع رغم قصر مدته لاعتماده على بواطن الأمور وكل ما يمكن أن يخطر على بال من نظريات المؤامرة أو الحقيقة المرة التي يمكن أن يفكر فيها شخص ما، إضافة لغناه بالصور الرمزية التي يمكن أن تطرح عدة تساؤلات حارقة، مثل إلى أي مدى يتم التلاعب بالبشر على نطاق واسع؟ وكيف نكتشف الجذور الاجتماعية والثقافية التي تمتد لآلاف السنين؟ والأهم من هذا كله هو كيف يمكننا إزالة هذه الأقنعة عن أنفسنا كي نظهر بجوهر منبعنا الداخلي الصافي في سلام وسكينة وطمأنينة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق