"الإِنْسَانُ
فِي تَفْكِيرِهِ لاَ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِمِقْدَارِ مَا يَبْحَثُ عَنِ الْوَسِيلَةِ
الَّتِي تُسَاعِدُهُ فِي الْحَيَاةِ" 'حول طبيعة الإنسان' لعلي الوردي رحمه الله
من الناس من يظن أنه أذكى خلق الله الذي لايأتيه الباطل لا من بين
يديه ولا من خلفه في أقواله وأفعاله، مع الاستثناء بطبيعة الحال لقلة قليلة من الصادقين المخلصين الأمناء، والاستثناء لا يُقاس عليه كما تقول القاعدة الفقهية، ويكفي إلقاء نظرة سريعة عن العدد الهائل من
الفيديوهات على منصة اليوتيوب التي بقدرة قادر أصبح أصحابها غاية في الكمال حتى يكاد يُخَيِّلُ
لي أنني أعيش في هذا العالم السفلي بين الملائكة، وأضحى منهم من يُنَظِّرُ ويحاضر وينصح غيره من الناس باتباع خزعبلاته وهرطقاته، بل أضحى بعض المتنطعين يدعون معرفة الغيب وتفسير كل الظواهر الكونية، وآخرون من المتعصبين أضحوا يكفرون يمينا وشمالا ويوزعون صكوك الغفران هذا في الجنة وذاك في النار، وكل ذلك من أجل جني بعض الدولارات من
رئيسهم ومُستخدِمهم وسيدهم اليوتيوب ليس إلا، والدليل القاطع على ذلك هو اعتماد الكثير منهم على إعادة نشر مختوى فيديوهاتهم القديمة بعد عمليات قص ولصق من هنا وهناك ومونتاج فج فاضح، وذلك من أجل رفع نسبة مشاهدة جمهور ضائعٍ ومُضَبَّعٍ وتائهٍ عن القبلة (الدنيا بالمال.. نقطة النهاية).
فهؤلاء الأقوام الذين يدعون المعرفة بلا حدود، ويتظاهرون بالتدين أو التحضر والتنوير والأناقة المفرطة والبروتوكولات الفارغة، لا يخلون من مثالب
ونواقص وعيوب أحيانا فاضحة، ولعل عالم الاجتماع العراقي علي الوردي رحمه الله كان
مصيبا عندما عدد نماذج منها في مؤلفه القيم 'نقاط على الحروف-مقالات غير منشورة'، ابتلي
بها الكثير من هؤلاء وهم فيها مُحْبَرُونَ لا إرادة لهم فيها ولا اختيار.
فهذا الإنسان يكون سارقا بالرغم من غناه، ولكنه يجد نفسه
مدفوعا إلى سرقة بعض الأشياء التافهة التي هو في غِنيً عنها، كملعقة شاي من مقهى،
أو كتاب من مكتبة، أو قلم حبر ممتاز من صاحبه، فهو يبذل جهده لمغافلة الناس من أجل
السرقة منهم، وقد ينكشف أمره يوما ما وينال الفضيحة، ولكنه لا يرعوي، بل يبقى خاضعا لدافعه القهري حتى آخر أيام حياته.
ومن الناس من يكون مماطلا في دفع الديون الْمًستحَقَّة عليه،
وقد يكون قادرا كل القدرة على الوفاء بدينه ولكن نفسه المريضة باللصوصية لا تطاوعه
على ذلك، وكلما طالبه دائنوه بمستحقاتهم تراه يكيل لهم الوعود مرة بعد أخرى، وكأنه
يشعر في قرارة نفسه أن أكل أموال الناس بالباطل نوع من الذكاء والغلبة والشطارة تجاه
الغير.
ومن الناس من تجده حريصا بخيلا ولو على مبلغ تافه من
المال بالرغم من ثروته الكبيرة، ويرغب بكل ما أوني من جهد في تضخيم ثروته مع علمه
أنها ستذهب إلى غيره بعد موته، ويظل ثابتا على حرصه حتى الساعة الأخيرة من حياته.
ومن الناس من تجده مؤذيا لأخية الإنسان، ويتلذذ يإيذاء
الناس ولا يحب نفعهم أو مساعدتهم، فهو يرمي سيجارته قبل إطفائها على المواد
القابلة للاشتعال بغية إشعال النار فيها، أو يرمي قشور الفواكه في وسط الشارع لكي
تنزلق بها أقدام المارة، أو يحطم أي شيء يقع تحت يده حين لا يراه ولا يراقبه أحد،
أو ينم بين شخصين لكي يثير النزاع والعداء والبغضاء بينهما، وهذا الكائن المريض المسمى
بالإنسان لا يرتاح نفسيا إذا رأى أحدا ينتفع من شيء، وقد يحاول عرقلة وصول الشيء
إلى المنتفعين منه، وإذا وجد شخصا مستضعفا لا عون ولا حول ولا قوة له عمد إلى
الاعتداء عليه أو إيذائه ثم يخلق بعد ذلك عذرا يبرر به الاعتداء.
ومن الناس من ينتشي ويترفه باستهزائه بالناس، وكأن به يبحث من خلال هذا الاستهزاء لإثبات نوع من
الاستعلاء والتفوق وإرضاء نفسه المريضة.
ومن الناس من يقول كلمة واحدة صادقة وعشر كلمات كاذبة، ومن
المستحيل أن يلتزم بالصدق في كل ما يتحدث به، فهو لا بد أن يكذب تحت قوة الدافع القهري،
أو يبالغ في الكذب على الأقل.
ومن الناس من يلجأ إلى المغابنة في عمليات البيع والشراء
في المجتمعات المتخلفة، والْمُغَابِنُ يصعب عليه أن يكون صادقا مع الزبون أو يُخْلِصَ
له وهو ينتهز أية فرصة تُتَاحُ له لكي يغش الزبون أو يغبنه، لأنه لا مصداقية له،
فهو يفضل الربح العاجل القليل على الربح الآجل الكثير.
ومن الناس من تجده حَسُوداً، والحسد في كل الأحوال دافع قهري
يصيب كل البشر دون استثناء ولكن على درجات متفاوتة، لكن الحسد المذموم هو الذي
يشتد تجاه الناس جميعا من دون تفريق، ويغمر صاحبه الفرح والنشوة كلما علم بمصيبة
حلت بأحد منهم.
ومن الناس من تجده مغتابا يتكلم بالسوء عن كل شخص غائب،
ولا يكاد يسلم أحد من لسانه، إنه يتلذذ في البحث عن مصائب الآخرين ونشرها على الملإ،
وهنالك مجموعات كثيرة سواء من الإناث أو من الذكور ممن يمضون معظم أوقات فراغهم في
الاغتياب وأكل لحوم الناس.
ومن الناس من يحب الثرثرة الفارغة والكلام، وإذا اجتمع
مع آخرين في مجلس لا يحب أن يرى أحدا يتكلم غيره، فهو مركز الكون وعنده تقف كل
العلوم والمعارف، وهو من خلال تصرفه هذا يظن ويشعر بأن الكلام في المجلس نوع من
الغلبة والتفوق ولا ينبغي أن يتفوق أحد عليه، فهو حين يستمع إلى حديث غيره يشعر
بالتضايق، وترى عينيه تدوران بحثا عن فكرة يقاطع بها حديث غيره لكي يبدأ هو
بالحديث، والطامة الكبرى هي عندما يكون هذا الثرثار محبا للجدل، آنذاك فإن المشكلة
تصبح أشد تعويصا لأنه يجادل في كل شيء ولو كان لا يفقه إلا الفتات عن ذلك الموصوع،
وإذا سمع من أحد قولا مخالفا لمعلوماته المحدودة أسرع إلى تصحيحه أمام الحاضرين
لكي يُظْهِرَ سعة علمه وحذقه لهم.
ومن الناس من يحب الخصام، ولا يستطيع أن يحتفظ بصديق له
مدة طويلة، فهو لا بد أن يجد سببا للخصام معه، فَيُلاَوِمُهُ ثم يترك صداقنه ويحمل
الحقد عليه، إنه يطلب من الصديق أن يكون كاملا لا نقص فيه، مع العلم أن ليس في
الدنيا صديق من هذا الطراز، فإذا وجد فيه أقل هفوة شهر عليه سيف اللوم والتقريع،
ومما يلفت النظر أنه هو نفسه قد يكون من أكثر الناس عيوبا، غير أنه لا يدرك ذلك في
نفسه، وقد يعدُّ نفسه مُبَرَّءاً من كل غيب، إن تفكيره موجه نحو التحري عن عيوب
الغير ونسيان عيوب نفسه.
ومن الناس من تجده ميالا إلى العصبية، يضمر بغضا عميقا
وحقدا على كل من ينتمي إلى قوم غير قومه، أو طائفة عير طائفته.
ولو كشف الله تعالى الغطاء عن حقيقة الكثير من الناس
لرأينا فيهم من العيوب ما يُثير الدهشة، ولكن الله تعالى ستر عليهم فجعل عيوبهم
قليلة نسبيا ومن السهل إخفاؤها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق