متلازمة تيتانيك

 وَمَا السَّعَادَةُ  فِي  الدُّنْيَا   سِوَى  شَبَحٍ      يُرْجَى فَإِنْ  صَارَ  جِسْماً مَلَّهُ   الْبَشَرُ
كَالنَّهْرِ  يَرْكُضُ نَحْوَ السَّهْلِ  مُكْتَدِحاً     حَتَّى    إِذَا  جَاءَهُ    يُبْطِي    وَيَعْتَكِرُ
                                                                    جبران خليل جبران
متلازمة تيتانيك
في أحد أبرز أفلامه التوثيقية الذي تم إنتاجه سنة 2008 وصدر سنة 2009، والذي يحمل عنوان 'متلازمة تيتانيك' Le syndrome du Titanic' تطرق المخرج والممثل والكاتب الفرنسي 'نيكولا هولو' 'Nicolas Hulo' إلى تأثير الإنسان على تطور البيئة وتآكل التنوع البيولوجي، وحذر فيه من العواقب الوخيمة التي قد تحول حياة الناس فوق كوكب الأرض إلى جحيم لا يُطاق أو حتى إلى فناء، واعتبر المخرج على أن أيامنا على كوكب الأرض باتت معدودة، لذلك شبه سكان الأرض بركاب سفينة تيتانيك "Titanic" الإنجليزية الشهيرة التي غرقت إثر اصطدامها بجبل جليدي ضخم بالمحيط الأطلسي سنة 1912
إن الغالبية العظمى من البشر يندفعون باتجاه مستقبل مظلم غير معلوم، يرقصون ويضحكون بأنانية وغرور الكائنات المتفوقة، ويعتبرون أنفسهم أسياد الكون والمتحكمين في نواميسه، ومع ذلك فالعلامات التحذيرية لغرق السفينة التي تمخر بهم عباب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موح تتراكم وتنذر بالكارثة العظمى: 
-اضطرابات مناخية متسلسلة مجنونة وخارجة عن السيطرة، فالصيف لم يعد صيفا والشتاء لم يعد شتاء، فيضانات طوفانية وحرائق جهنمية وخسوفات أرضية وانجرافات للتربة وعواصف ترابية ورملية هوجاء في كل مكان،
-ارتفاع صاروخي في عدد الزلازل حول العالم لم يسبق تسجيله في أي فترة من التاريخ منذ بدأ تتبع الزلازل، 
-تلوث جد خطير منتشر على نطاق واسع في المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار وحتى في المياه الجوفية، 
-انقراض متسارع وصادم لعدد هائل من الأنواع الحيوانية والنباتية على المستوى العالمي، 
-نهب فوضوي ولا أخلاقي بكل المقاييس للموارد الطبيعية من طرف الأوليغارشية الرأسمالية المفترسة،
-تكاثر الأزمات الصحية بشكل رهيب، من أوبئة وجوائح فتاكة، وأمراض مستعصية، وأمراض جديدة قاتلة لم يكن لها من ذي قبل وجود، 
-نمو ديموغرافي متفجر بدون كوابح خصوصا في دول الجنوب المتخلفة حيث يسود الجهل بشكل صارخ على كل الأصعدة والمستويات،
-تجارب علمية جد خطيرة غير معروفة العواقب، وتدعو إلى الكثير من الارتياب والتوجس حتى لذى العلماء أنفسهم، هذه التجارب التي قد تُضْحِي خارجة عن السيطرة وتتسبب في تدمير كوكب الأرض برمته، ويعتبر مشروع سيرن الماسوني "CERN :Conseil Européen pour la Recherche Nucléaire" الذي تم تأسيسه سنة 1952 على الحدود بين فرنسا وسويسرا أضخم مختبر في العالم في فيزياء الجسيمات أبرز مثال على ذلك، وهدفه كما يدعي كهنة المعبد الماسوني هو معرفة أسرار نشأة الكون، إضافة إلى مشروع هارب المعروف باسم برنامج الشفق النشط عالي التردد "H.A.A.R.P :High Frequency Active Auroral Research Program" الذي قد يتسبب في كوارث بيئية وحتى إلى انقلاب الأقطاب المغناطيسية للأرض حسب علماء روس وأوروبيين.
ولا زال الكل يتصرف كما لو كان وحده في هذا العالم المتداعي، وكأن الأمر الجلل الذي نعيش اليوم على إرهاصات تداعياته الأولية لا يعنيه لا من قريب ولا بعيد، متمسك بقشة ممتلكاته المادية وتفاهاته الصغيرة الحقيرة التي يظن أنها سوف تنجيه من الطوفان.  
إن هذا الفيلم التوثيقي هو نداء أو صيحة في واد للعقل والتعقل والفعل السياسي المسؤول حول الأزمات السياسية والعلمية والاقتصادية والإيكولوجية والاجتماعية والأخلاقية التي تعصف بالعالم اليوم، وتكاد تقضي عما تبقى فيه من روح الجمال والنقاء والصفاء والمثل العليا، وتحوله إلى بركة آسنة تزكم الأنوف، وهو أيضا انتقاد صريح ومشروع للنموذج الاقتصادي المهيمن حاليا على سائر المعمور، والمتمثل في الرأسمالية الاستهلاكية المتوحشة التي تقتل في الإنسان كرامته وعزته، وتحوله إلى بضاعة وسلعة رخيصة لا تسمو على قطعة ورق نقدية عديمة القيمة.
لم يكن هذا النموذج الفاشل الذي أدخل البشرية حاليا إلى غرفة العناية المركزة،  في أي حال من الأحوال هو الحل لمشكلة العالم العويصة في وقتنا الحاضر كما يدعي كهنة المذهب المادي، بل هو أساسا المشكلة في حد ذاتها، هذه الأزمات التي ما فتئت تتفاقم يوما بعد يوم وتنذر بالسكتة الدماغية للجسد المنهك للبشرية إذا استمرت التداعيات تسير على نفس الوثيرة الجنونية، فليس البصر من يرى إذا افْتُقِدَتِ البصيرة.
لقد استطاع هذا الفيلم الذي تم إبداعه بطريقة فنية ذكية مؤثرة، ورؤية ثاقبة، ولقطات واقعية من صميم الحياة تقطع الأنفاس، ويزداد وقعها قوة على المشاهد من خلال السرد الأخاذ بين الفينة والأخرى لمخرج الفيلم، الذي هو أقرب إلى خواطر وتأملات، لكنها مبنية على حقائق علمية موثقة، وتحقيقات واقعية، وتقارير عالمية ذات مصداقية.
يقول الراوي: مشاهدة الفيلم التوثيقي متلازمة تيتانيك هو مثل الغوص في محيط متجمد، والارتطام ارتطاما مميتا  بجبل جليدي، ثم يعتصر بعد ذلك الْقَلْبَ أَلَمٌ مبرح، ما دام معظم البشر لم يغيروا نظرتهم المقولبة الخاطئة للعالم الذي يعيشون فيه، إنه العالم الذي لا يرونه، والذي لا يمتلك الجرأة أحد للنظر إليه وجها لوجه، نعم.. لفهم متلازمة تيتانيك يكفي بكل بساطة أن ينظر المرء ببصيرته وليس فقط ببصره لما يحدث في العالم اليوم.
في هذا الكون الرحب المترامي الأطراف أهم شيء نكتشفه هو أن الحياة ليست هي القاعدة، بل هي الاستثناء.. في أنفسنا ومن حولنا كل شيء هو عبارة عن غبار نجوم، كل شيء عبارة عن ذرات، كل شيء يهتز.. الذرات تشكل كل ما هو موجود: الهواء الذي نتنفسه، الطعام الذي نأكله، بل حتى الماء الذي نشربه، أبديٌّ تقريبا.. ويُعيد دورته بشكل مستمر في وردة أو شجرة أو كائن حي.
كل واحد منا هو جزء من المجرة، هذا الماء الذي خَلَقَنَا وَوَهَبَنَا الحياة يجب محبته محبة الأم، منذ النشأة الأولى هي نفس الدورة المائية التي تتكرر باستمرار، أَبَدِيَّةٌ مُصَفَّاةٌ مُتَبَخِّرةٌ مُبْتَلَعَةٌ، إنها نفس المياه التي تخترق أعماق الأرض قبل أن يتم امتصاصها نحو السماء، كل من يتقاسم هذه المياه مقدس: الأسماك، الحيوانات، الفراشات، الحشرات، الأزهار، الحياة بكل بساطة، نقتسم معها نفس الموسيقي السائلة ونفس الميكانيكا الحميمية، على الأرض كل الظروف مواتية كي تتجمع الذرات القادمة من النجوم لِتُكَوِّنَ الجزيئات ثم الخلايا. 
كل الكائنات الحية تقتسم نفس المواد الجينية، إنه نفس الرمز الذي ينتقل من جيل إلى جيل آخر، رقصة لا متناهية من أجل صياغة شيء واحد: الحياة....هذه الحياة المعلقة بخيط رفيع، والتي للأسف يقضي الإنسان فيها معظم أوقاته في المخاطرة بحياته بالرقص بدون اكتراث وبدون مسؤولية فوق شفرة حلاقة.
لاجتناب رؤية البؤس والبشاعة في هذا العالم يحاول كهان المعبد المادي الربوي المتوحش أن يفرضوا علينا أحلام السلطة، أحلام الإخضاع، أحلام الخردة الرخيصة المطلية بكل الصباغات، على طرقات العالم تتسكع في هذه اللحظة أزيد من 1.60 مليار سيارة.. 1.60 مليار من الأحلام الكيلومترية.. 1.60 مليار من أحلام العظمة من الأبهة الفارغة والأنانية المفرطة والتبجح وحُمَّى الاستهلاك.. 1.60 مليار من أحلام الوجود الفاني.. 1.60 مليار ونصف حالة من السخافة والتفاهة والعبث والقرف.. إنني أعارض هذا النمو الْمُسْتَهْدَفَ الذي ليس لديه طموح أكثر، وهذا الهوس الكمي.. إنني أعارض فكرة أن الحضارة الغربية هي عملية تحسن خطية لا متناهية الهدف منها هو بلوغ العالمية.. وأي عالمية هذه التي تتزين كالباغية بتدمير كل شيء من حولها.
أين هو التقدم عندما يكون كل ما يربط بيننا ويميزنا عن بعضنا البعض يتآكل ويتلاشى تحت وقع عالمٍ مُشَيَّءٍ وُمُسَلَّعٍ وَمُتَغَيِّرٍ، بدون تنوع تموت الكرامة، وفي إنكاره للتنوع فإن الإنسان في حقيقة الأمر ينتحر.. كيف يمكن القبول بأن ثلاثة ملايير شخص في العالم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، في حين أن حفنة من اللصوص الفجرة من أصحاب الثروات من مصاصي دماء المستضعفين والمقهورين يستحوذون على ما يوازي الناتج المحلي الإجمالي لمجموع الدول الفقيرة على المستوى العالمي.. ليس علينا جميعا إن كان فينا مثقال ذرة من الإنسانية القبول بأي شيء من هذا، لأنه بكل بساطة غير مقبول مطلقا.. إننا نطفو فوق ارتباك خطير يأذن بالكارثة العظمى.. إننا في حقيقة الأمر ضحايا نجاحاتنا المادية الباهرة التي تتبختر بجسدها كالغانية إلا أنها تفتقد لأغلى شيء في الإنسان: الروح.
كنت أعتقد في الوفرة .. واكتشفت في الأخير الندرة.. تخيلت أن الأرض كوكب بلا حدود .. وهي صغيرة لدرجة اليأس وهشة لدرجة الهلع، إننا لا نستهلك فقط.. بل نستنزف وندمر ونهلك! لأي مكان أذهب إليه أرى الطبيعة تحتضر وهي على حافة الانهيار.. أعرف.. أعرف.. أنه إذا لم نغير تصرفاتنا الخرقاء تجاهها.. فإنها لن تسألنا عن رأينا أو تتشاور معنا، بل سوف تقوم بالتعديلات اللازمة! بدون استئذان أحد، وهو ما نراه اليوم واقعا فعليا في كل أرجاء المعمور، ولسوف يدفع الإنسان ثمنا غاليا وسيقاسي الأمرين، غير أن الذين سيعانون أكثر هم الفقراء والمستضعفون الذين يعانون أصلا،  ثم سيلحق بهم  الأثرياء والمترفون بعد وقت قليل على حدوث ذلك، ولن تنفعهم لا أموالهم ولا قصورهم ولا ما كدسوه من ثروات عندما تحل الواقعة.. هذا ما جنته البشرية على نفسها بأنانيتها وتصرفاتها الخرقاء، ولم يجن عليها أحد.
أعرف أنني لا أعرف الشيء الكثير، وعلاوة على ذلك لدي مؤاخذة على أولئك الذين يظنون أنهم يرون بوضوح وسط كل هذه الظلمة الحالكة وهذا الارتباك العظيم، تتجاذبني شكوك حول مستقبل البشرية وعن ماهية الإجراءات المستعجلة ولو للتقليل من آثار الواقعة التي لا مفر منها،  ولن يسعفنا جميعا آنذاك أن نأوي إلى جبل يعصمنا من الطوفان العظيم القادم. 
بالله عليكم أي صدى للكلمات التي تحفر في جسدي- مثل التغير المناخي، التنوع البيولوجي، التَّغَيُّر الإحيائي- يمكن أن يكون لها وقع في أذني عاطل عن العمل أو من باب أولى في أذني جائع لا يسد حتى  الرمق.