هذه
اللوحة التي تُثير الرعب والفزع في النفس لها حكاية غريبة وعجيبة، رسمها الفنان جيرارد دافيد Gerard David (1460-1523) بين سنتي 1498م – 1499م، ولد هذا الفنان فى إحدى القرى الجنوبية بهولندا،
ثم انتقل إلى مدينة بروج ببلجيكا فى عام 1484 م ليصبح بعد ذلك فنان المدينة البارز
وإحدى القمم الفنية فيها، وقد تم تعليق هذه اللوحة المثيرة للرعب بقاعة العدالة ببلدية بروج البلجيكية، التي كان القضاة يجلسون
فيها للحكم بين المتقاضين لإشاعة الرهبة والخشية فى نفوس القضاة حتى لا يزيغوا عن العدل أو يحيدوا عنه، وهي محفوظة اليوم بمتحف جروينيج Groeningemuseum في مدينة بروج، وقد جرت
العادة طيلة القرن الخامس عشر الميلادي بتعليق صور تمثل هذه الواقعة على جدران غرف
العدل بدول أوروبا.
استلهم جيرار دافيد موضوع لوحته هذه من رواية للمؤرخ هيرودوت وقعت أحداثها في
القرن السادس قبل الميلاد لأحد قضاة يُدعى سيسامنيس إبان حكم ملك الفرس قمبيز، وقد تمت إدانة هذا القاضي بتهمة تلقي رشوة من أحد المتقاضين عنده، فما كان من الملك إلا أن اقتحم عليه منزله
هو وكبار رجاله آمراً جنوده بالقبض عليه ومعاقباً إياه بسلخ جلده حياً حتى يكون عبرة
مدوية لغيره من الفاسدين.
يقول
هيرودوت: "كان سيسامنيس واحدًا من القضاة الملكيين، فقتله الملك قمبيز لأنه
حكم مقابل المال حكمًا جائرًا في قضية، وسلخ جميع جلده، ثم قطّع من ذلك الجلد
سيورًا جلدية شدها على الكرسي الذي كان سيسامنيس يجلس عليه وهو يقضي بين الناس،
وبعد أن شدها على الكرسي، عَيَّنَ قمبيز ابن سيسامنيس هذا الذي قتله وسلخه، ليكون
قاضيًا خَلَفاً لأبيه، آمرًا إياه أن يتذكر على أي كرسي سيجلس ليصدر الأحكام".
وقد
استطاع الفنان تصوير هذه الحادثة فى لوحتين زيتيتين اعْتُبِرَتَا من أشهر أعماله، تم
وضعهما فى قاعة العدالة بمقر بلدية مدينة بروج البلجيكية، صَوَّرَ فى الأولى الملك
قمبيز وحاشيته وهم يحيطون بالقاضى الفاسد في منزله بينما يوجه الملك إليه التهمة، فى
حين يبدو القاضى قلقاً مذعورا وهو يستمع إلى الملك، ويظهر فى خلفية اللوحة القاضى الفاسد وهو
يتسلم كيس النقود أمام بيته، بينما صَوَّرَ فى اللوحة الثانية عملية تنفيذ العقوبة
الرادعة على القاضى المرتشى على يد جلاديه الذين يقومون بسلخ جلده وتمزيقه إرباً إرباً
وهو حى يرزق ولا يستطيع أية مقاومة، وقد ارتسمت على وجهه آيات الفزع والنظرات التائهة.
كما
ظهرت النظرات العميقة المذعورة والمتأملة على وجوه المحيطين به، في حين يظهر من بعيد
ابن القاضى الذي يأخذ مكان أبيه ويجلس على مقعد مصنوع من جلد أبيه الممزق حتى يتذكر
دائماً العقاب الرادع الذي ينتظر كل ظالم فاسد.