لك الله يا فلسطين من همجية وبربرية وإرهاب الصهاينة وحماتهم ومناصريهم

"لا مجال للشك لدي في أن أمريكا والغرب المسيحي المنافق عموما وبعض الأنظمةِ العربيةِ الْمُسْتَنْعَجَةِ يريدون تجمعات فلسطينية رخوة-وليس شعبا واحدا-مدجنة خنوعة مستسلمة تأكل القوت في انتظار الموت، لا حول ولا قوة لها وخاضعا للصهاينة بشكل كامل، لذلك يعتبرون حركة المقاومة الفلسطينية حماس وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى منظمات إرهابية، لأن لها عزة تجعلها عصية كليا على الترويض والتحكم والسيطرة والإذلال من أي كان" المدون

لك الله يا فلسطين من همجية وبربرية وإرهاب الصهاينة وحماتهم ومناصريهم

بين حديد الانتداب الذي يأكل الأجسام، وذهب الصهيونية الذي يأكل الأرض، يعيش العربي في فلسطين عيشة المحكوم عليه بالقتل أو النفي، إذا سلم له بدنه لا يسلم له وطنه، وما هذه الصرخة التي صرخها فصكت المسامع الصم، وبلغت الضمائر الغلف، إلا العارض المنذر في الحي بالضر يَلُوعُهُ، أو الخطر يَرُوعُهُ، أو الظلم يَحِيقُ به! وأن الصرخة للحياة تسلب، أو للديار تغصب، لهي الصرخة التي يدوي فيها صوت الحق، ويمتزج بها أنين العدل، ويضطرب فيها احتجاج الإنسانية على قوم اتخذوها حِيلةً لاستعمار الأوطان، ووسيلةً لاستعباد الأممِ.
كانت البربرية في العهود الخوالي تغزو سفارة الوجه، وتنهب ظاهرة اليد، وتقول صريحة العبارة، وتعمل واضحة الغاية، فجاءت مدنية اليوم فوضعت اليد الحمراء في القفاز الأبيض، والفريسة بمعاهدات الصداقة ومؤتمرات السلام، وصاغت معاني القوة والغصب في ألفاظ القانون ومصطلحات العلم، وأشفقت على شعور الإنسانية فسمت الاسترقاق تمدنا، والاغتصاب انتدابا، والحماية وصاية، وعمَّقت أغوار القلوب السياسية فلا تعرف لماذا حرمت بيع إنسان لإنسان، وحللت بيع شعب لشعب!
هذه أمة من أسبق الأمم قدما في المدنية، وأعرق الشعوب نسبا في الحرية، تسير على دستور رفيع الدعائم أثيل المنبر، ولم يمنعها عرفها الموروث ولا شرعها القائم أن تبيع فلسطين العربية جهراً لنفايات اليهود، وليس العرب من مماليكها، ولا فلسطين من أملاكها! ثم تسخِّر لضمان هذا البيع الباطل قوة الحكومة وسلطان الدستور، وتمثل تحت العلم البريطاني وعلى مواطن المسيح أروع مآسي العدالة!!
سلطوا على البلاد الجوع وأرسلوا من ورائه الذهب! فكأنهم قالوا للعربي البائس: إما الوطن ولا حياة، وإما الحياة ولا وطن! فأما الذين قهرهم الفقر وبهرهم المال فقد باعوا أنفسهم وأهليهم بيع الغبن للدخيل، وأما بقايا السيوف وأحفاد الفاتحين فآثروا أن يدفنوا أعزة في ثراها العزيز، على أن يتركوها أذلة لليهود والإنجليز، فدافعوا الأزمة بالصبر، والانتداب بالعزم، والصهيونية بالمقاطعة، وأروا هذه القوى الثلاث التي حالف بينها الباطل أن العربي الذي غزا العالم ولا يمسك رمقه إلا قبضة من سويق وشفافة من ماء، لا يُخذل من قلة، ولا يفشل من جوع!
لك الله يا فلسطين! لشد ما تكابدين من عسف القوى وكيد الغني وقسوة الظالم!! إن دموعك منذ الفاجعة لم ترقأ، وجروحك منذ الواقعة لم تندمل، وصوتك الجازع المكروب لا يزال يجلجل في أعماق الشرق وآفاق العروبة مستغيثا من الخطب الذي ناء بألمانيا وأنقضَ ظهر الدول! ولكن بنيك البواسل يا فلسطين يتنافسون في مجد الموت وشرف التضحية! فهل تخشين أن يعيث في أديمك المقدس عائث، وأنت ترين شبابك الميامين يخوضون غمرة الهول وراء زعيمهم الشيخ، وصدره الواهن مشبوب بعزم آبائه، وشعره الأبيض مخضوب بدم أبنائه؟
الوطن العربي اليوم في البلاء سواء، لأنه فقد الروح الفتية التي كانت تعمره، والحيوية القوية التي كانت تغمره، وأصبح هيكلا متهدم الجرف لا يملك بعضه بعضا، على أن فزعته الإجماعية لمظلمة فلسطين تبعث الأمل في عودة تلك الروح ورجعة هذه الحيوية، ولعلها فزعة المغيث المسعف لا فزعة النادب الآسف! فإن مصاب فلسطين لا ينفع فيه البكاء ولا يدفع منه الخزن، إن فاجعة وادي الحوارث صورة صغيرة لمصير فلسطين إذا استنام أهلها للوعود، وبيعت أرضها لليهود، وقبض العرب أيديهم عن معونة إخوانهم على دفع هذا الخطب، وإن دول الأرض جمعاء لتعجز عن إيفاء وعد بلفور ما دامت الأرض في يد العرب، فإذا ما استنزلوا عنها بأغلاء الثمن وإغواء الذهب شتتهم القانون وحده تحت كل كوكب.
فإن اليهودي إنما جاء فلسطين ليشتري وطنا يستعمره، لا حقلا يستثمره، فكل شبر من الأرض يخرج من يد العربي يدخل إلى الأبد في يد اليهودي، ويومئذ لا يرده إلى أهله احتجاج ولا تظاهر، وما الاحتجاج والتظاهر إلا إعلان للحق لا دفاع عنه.
والدفاع المنتج عن فلسطين أقواه وسيلتان: أن يأخذ الزعماء والعلماء موثقا من الشعب ألا يبيع المضطر أرضه لغير العربي مهما خدعته المطامع ودلاه الطامع بغرور، أن يقوموا بدعاية منظمة قوية في الأقطار العربية، وعلى الأخص في مصر، إلى تأليف الشركات العقارية لاستعمار فلسطين.
والعرب الذين فُطروا على نُصرة الأخ، ونجدة الصريخ، ومعونة الضعيف، لا يعرضون عن يد فلسطين التي تمتد، وصوتها الذي يُهاب.
أحمد حسن الزيات رحمه الله