العقل ينير بصيرة الإنسان أما العواطف فتقوده كالأعمى

 أُمَّتِي  كَمْ   صَنَمٍ   مَجَّدْتِهِ       لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ طُهْرَ الصَّنَمِ

لاَ يُلاَمُ  الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ       إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ  الْغَنَمِ
                                                   الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة رحمه الله
العقل ينير بصيرة الإنسان أما العواطف فتقوده كالأعمى

سوف أكون ساذجا لدرجة الغباء الذي ما بعده غباء إن صَدَّقْتُ يوما أن أحدا من الخلق سوف يغير شيئا ما من حياتي نحو الأفضل، لذلك كنت دائما منذ صباي كثير التشكك-عن قناعة راسخة وبدرحة كبيرة-في جميع الهيئات التي تجمع الناس كالأغنام، ثم يصعد المنصة سعادة كبير المحتالين الذي علمهم الكذب كي يخطب فيهم بكل حماس عن المشاريع المستقبلية، وهو يقصد بطبيعة الحال مشاريع جز صوفهم وذبحهم وسلخهم، وهؤلاء المساكين عما ينتظرهم غافلون.  

أوسخ وأنذل وأحقر صنف من البشر تمجهم وتكرههم نفسي كراهية مطلقة بالإضافة إلى الظلمة الغشمة هم المسؤولون الفاسدون بجميع تصانيفهم ورتبهم، لأنهم لا يكتفون بفسادهم، بل يقومون بنشر الفساد من حولهم وفي كل الاتجاهات وعلى جميع الأصعدة، لدرجة أن المجتمع يتحول برمته إلى بركة آسنة من الخبث والعفن لا ينفع معهما طبيب ولا دواء.
إنه لأمر جد محير ومربك حقا حينما يحسدك الناس ويتضايقون منك حتى على فعل أعمال الخير والإحسان تجاه الحيوانات، وفي كل الأحوال فإن هناك حيوانات أشرف وأطهر من بعض البشر شئنا ذلك أم أبينا.
لقد وقفت على مدى البؤس المخيم على عالم اليوم لدرجة أن هذه الباغية التي تسمى الدنيا لا تستحق مني حتى مجرد تلك النظرة الخاطفة لاحتمال أن يكون القادم أسدا، وتبدو لي الحياة كئيبة وبئيسة ولا تستحق كل هذا العناء والجري والسباق المحموم حينما يُدْرِكُ المرء -بالعقل الذي ينير بصيرة الإنسان وليس بالعواطف التي تقوده كالأعمى- الدرجة الخطيرة للخواء والتفاهة والعبث المحيطين به من كل الجوانب وعلى جميع الأصعدة والمستويات.
الحرية بالنسبة لي هي أن أكون مستقلا في كل وقت ماليا وفكريا واجتماعيا.. ليس هناك شيء مجاني في هذه الحياة على الإطلاق، فلكل شيء ثمن حتى دفن الميت الذي ليس في كفنه جُيُوبٌ للبقشيش.. عندما أفكر كثيرا في جميع الأنظمة الحاكمة حول العالم اليوم أرى أنها أنظمة مستبدة وظالمة وعلى درجة كبيرة من الفساد، وبالتالي غير شرعية، فالفقراء هم الأكثر هشاشة فيها وهم من يؤدون دائما الثمن غاليا، الشيء الذي يضعهم في درجة خطيرة من الانحطاط والتذمر تكتسح أمامها كل شيء كما يكتسح تسونامي مدمر اليابسة.
جميع اقتصاديات الأنظمة في كل أرجاء العالم مبنية على معاملات مالية ربوية ظالمة، مُدَلِّسَة ومُخَادِعَة، تُحَابِي وَتُسَمِّنُ الأغنياء وَتَحْلُبُ حَلْبَ الشياه حتى الاستنزاف والجفاف الفقراء، فالسيطرة على إنتاج الثروة هو السيطرة على الحياة نفسها كما قال الكاتب والمؤرخ الإنجليزي-فرنسي جوزيف هيلاير بيلوك.
عندما يتوقف القلب عن الخفقان يموت الشخص كي يحيا الإنسان في عالم لا حاكم فيه ولا محكوم، ولا ملابس ولا مظاهر ولا نقود ولا نفاق ولا كذب ولا بهتان، إنها بالنسبة لي ميتة جميلة وأنيقة على كل حال لأنها تخلص هذا الإنسان من أعباء وعبودية ثلاثية الأكل والجنس والتغوط الثقيلة والمذلة، وهو الشيء الذي يعزيني كثيرا ويريحني بدرحة كبيرة، تصوروا معي لو عاش الإنسان للأبد وهو يقوم إلى ما لا نهاية بنفس هذه العمليات البيولوجية والحيوانية المقززة، أظن أن الحياة ستضحي جحيما لا يُطاق، ولسعى الناس للانتحار أفواجا وجماعات.
يتلقى المرء خلال حياته القصيرة الكثير من الضربات الموجعات ويُطْعَنُ بالكثير من الخناجر المسمومة، غير أنه من الواجب عليه أن يعرف كيف يدافع ويكافح ويناضل بكل ما أوتي من قوة عن كيانه ووجوده وكرامته ولو كلفه ذلك حياته.
لطالما اعتقدت أن التعليم والتثقيف يليق لشيء ما، غير أنني أدركت في الأخير أن الأجلاف والحثالات يتواجدون في كل الطبقات الاجتماعية للمجتمعات العصرية المبنية على الخواء والمظاهر، وأدركت أن أكبر الانتهازيين على الإطلاق هم المثقفون، وأكبر اللصوص والكذابين على الإطلاق هم السياسيون.
معظم البرامج التلفزيونية والإذاعية تدور حول الفن الهابط المنحط، ومواضيع الأكل والشرب، وموضى النساء وإشهار العري، لدرجة أن المرء يخيل إليه أن الأكثرية من البشر حول العالم اليوم لا فرق بينهم وبين البهائم التي ينحصر كل همها في الأكل والشرب والتكاثر.
علمتني الحياة ألا أنتمي أبدا لأي هيئة أو نقابة أو جماعة أو جمعية أو حزب أو منظمة، وألا أُكْثِرَ الحديث مع الناس، وألا أنتظر منهم شيئا على الإطلاق، وألا أدخل مع أي كان أبدا في مناقشات عقيمة وسخيفة وغير ذات جدوى، وألا أقرض أحدا مالا حتى ولو جاءني في زي ولي من أولياء الله الصالحين.. وألا أعتمد في جميع أموري إلا على نفسي.. وألا أثق في الناس وفي الدنيا ثقة عمياء إلا بالقدر الذي يُتيح لي أن أبقى متيقظا ومنتبها وعلى درجة عالية من الحذر الشديد من انقلابهما وغدرهما.