أن يكون المرء بلا وطن

"الْوَطَنُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَشْعُرُ فِيهِ الْمَرْءُ بِالرَّاحَةِ" الروائي المسرحي والشاعر اليوناني يوربيديس (480 ق م-406 ق م)
أن يكون المرء بلا وطن
ما هو الوطن؟ ألن يكون بالصدفة أرضا زراعية خصبة يقطن مالكها بشكل كريم ومريح في بيت مُحَافَظٌ عليه جيدًا، وعندئذ يمكنه أن يقول: "هذا الحقل الذي أزرعه هو لي، هذا المنزل الذي بنيته هو لي، أعيش فيهما تحت حماية القوانين التي لا يمكن لأي طاغية أن ينتهكها، وعندما يجتمع أَصْحَابُ الحقول والمنازل مثلي من أجل مصالحهم المشتركة، فلدي صوت في هذا التجمع، أنا جزء من الكل، جزء من المجتمع، جزء من السيادة: هذا هو وطني".تباهى يوما خبَّازٌ شاب بحب وطنه، وكان ما يزال حافظا لبعض العبارات عن شيشرونقد درسها بالكلية، سأله مرة أحد جيرانه:"ماذا تعني بوطنك؟ أهو فُرْنُكَ؟ أهي القرية التي وُلِدْتَ فيها ولم ترَها منذ ذلك الوقت؟ أهو الشارع الذي سكنه فيما مضى أبواك اللذان فقدا كل شيء من حطام الدنيا، وجعلوا منك قزما مكتفيا بصنع فطائر صغيرة وبيعها من أجل البقاء؟ أهي دار البلدية التي لن تصبح بها أبدا حتى مجرد مساعد للموظف المسؤول عن مراقبة ورعاية الحي؟ أهي كنيسة السيدة العذراء حيث لم تستطع أبدا أن تصبح واحدا من جوقة الْمُرَنِّمِينَ، بينما وصل رجل تافه إلى منصب رئيس الأساقفة، وأصبح دوقاً يتقاضى دخلا يصل إلى عشرين ألف لويس ذهبي؟"
لم يَدْرِ الخباز الأجير بم يُجيب، واستنتج أحد المفكرين الذي كان يستمع إلى هاته المحادثة أنه في وطن ممتد إلى حد ما، كان هناك في كثير من الأحيان الملايين من الناس الذين ليس لديهم وطن.
أنت أيها الباريسي الحاذق، الذي لم يَسبق لك أن قمت برحلة رائعة إلى دييب2 لتتناول السمك الطازج، أنت الذي لا تعرف شيئًا سوى عن بيتك الأنيق بالمدينة، ومنزلك الريفي الجميل، ومكانك بتلك الأوبرا حيث بقية أوروبا تشعر بالرتابة والملل، أنت الذي تتحدث بلغتك بكل افتخار لأنك لا تعرف غيرها، تحب هذا كله، وتحب كذلك الفتيات اللاتي تعتني بهن، وخمر الشمبانيا الذي يأتي إليك من ريمس3، والأرباح التي يدفعها لك فندق المدينة كل ستة شهور، ومع كل هذا تقول إنك تحب وطنك!
وعليه، هل يمكن لرأسمالي أن يحب بكل ود وطنه؟؟؟
ألدى الضابط والجندي-اللذان سيدمران مقراتهما الشتوية لو سُمِحَ لهما بذلك-حبا عاطفيا للفلاحين الذين يدمرونهم؟
أين كان وطن دوق جويز؟4 أكان في نانسي، أم باريس، أم مدريد، أم روما؟
ما وطنكم يا كاردينالات لابالو، وديبرا، ولورين، ومازاران؟5
أين كان وطن أتيلا6 ومئات الأبطال أمثاله؟
أود أن يُخبرني أحد أين كان موطن إبراهيم؟
كان أول من كتب أن الوطن هو المكان الذي يشعر فيه المرء بالراحة هو-على ما َ أعتقد- يوربيديس7 في مسرحيته 'فايتون'، لكن أول إنسان غادر محل ميلاده سعيًا إلى راحته في مكان آخر كان قد قالها قبله.
والآن أَمِنَ الأفضل لوطنك أن يكون ملكية أم جمهورية؟ لقد طُرِحَ هذا السؤال منذ أربعة آلاف عام، اسأل الأغنياء عن الحل، كلهم يُفضلون الأرستقراطية، اسأل الشعب، إنه يريد الديمقراطية، والملوك وحدهم هم من يُفضلون الملَكية، كيف يمكن إذن أن يحكم العالم كله ملوك؟ اسأل الفئران الذين اقترحوا أن يُعلقوا جرسا حول عنق القط، السبب الحقيقي، كما قيل، هو أن البشر نادرا ما يستحقون حكم أنفسهم.
إنه لمن المحزن أن يضطر المرء كي يكون وطنيّاً صالحاً، أن يكون عدوا لبقية البشرية، أن تكون وطنيا صالحا هو أن تتمنى أن تغتني مدينتك بالتجارة، وتستقوي بالسلاح، ومن الواضح أن أي دولة لا تستطيع أن تربح إلا بخسارة غيرها، وأنها لا تستطيع أن تنتصر دون أن تخلف أعداداً ضخمةً من البؤساء.
هكذا إذن حال البشر، أن يتمنى المرء العظمة لبلده يعني أن يتمنى الضَّرَر َ لجيرانه، والذي لا يتمنى أن يكون وطنه لا أكبر ولا أصغر، ولا أغنى ولا أفقر، يكون هو مواطن العالم.
ترجمة من طرف المدون بتصرف عن النص الفرنسي 'الوطن' من القاموس الفلسفي لفولتير
هوامش:
1 كاتب روما وخطيبها الشهير (106 ق م-43 ق م).
2مدينة فرنسية تقع بمحافظة السين البحرية.
3 مدينة تقع في شمال فرنسا بمقاطعة شامبانيا أردين. 
4دوق جويز (1550-1588) هو هنري الأول وأمير جوينفيل وكونت، أسس عام 1576 الرابطة الكاثوليكية لمنع توريث هنري الثالث للعرش الفرنسي، واعتبر الشخصية الرئيسية في حرب فرنسا الدينية، وأيضا الشخصية الأبرز في حروب هنري الثلاثة، وأيضا خصماً قويا للملكة الأم كاثرين دي ميديسيسالذائعة الصيت آنذاك، وقد اغتيل من قبل الحارس الشخصي لابنها هنري الثالث ملك فرنسا.
5 كهنة كاثوليك.
6ملك هوني عاش بين عامي (395-453 م)، كان آخر حكام الهون وأقواهم، أسس في إقليم روسيا وأوروبا إمبراطورية مترامية الأطراف، عاصمتها هو ما يسمى اليوم هنغاريا.
7يوربيديس روائي مسرحي وشاعر يوناني (480 ق.م- 406 ق.م).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق