إلى أين المفر؟

"إِنَّكَ يَوْمَ دَمَّرْتَ حَيَاتَكَ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَقَدْ دَمَّرْتَ حَيَاتَكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ!"  
                                الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس إلى أين المفر؟
قُلْتُ سَأَذْهَبُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى
سَأَذْهَبُ إِلَى بَحْرٍ آخَرَ
مَدِينَةٌ أُخْرَى سَتُوجَدُ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ
كُلُّ مُحَاوَلاَتِي مُقَدَّرٌ عَلَيْهَا الْفَشَلُ
وَقَلْبِيَ مَدْفُونٌ كَالْمَيِّتِ
وَإِلَى مَتَى سَيَبْقَى فِكْرِي فِي الْحُزْنِ؟
أَيْنَمَا جُلْتُ بِعَيْنَيَّ
أَيْنَمَا نَظَرْتُ حَوْلِي
رَأَيْتُ خَرَائِبَ سَوْدَاءَ مِنْ حَيَاتِي
حَيْثُ الْعَدِيدُ مِنَ السِّنِينَ قُضِّيَّتْ وَهُدِّمَتْ وَبُدِّدَتْ
لَنْ تَجِدَ بُلْدَاناً وَلاَ بُحُوراً أُخْرَى
سَتُلاَحِقُكَ الْمَدِينَةُ وَسَتَهِيمُ فِي الشَّوَارِعِ ذَاتِهَا
سَتُدْرِكُكَ الشَّيْخُوخَةُ فِي هَذِهِ الأَحْيَاءِ بِعَيْنِهَا
وَفِي الْبُيُوتِ ذَاتِهَا
سَيَدِبُّ الشَّيْبُ إِلَى رَأْسِكَ
سَتَصِلُ عَلَى الدَّوَامِ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ
لاَ تَأْمَلْ فِي بِقَاعٍ أُخْرَى
مَا مِنْ سَفِينٍ مِنْ أَجْلِكَ
مَا مِنْ سَبِيلٍ
وَمَا دُمْتَ قَدْ خَرَّبْتَ حَيَاتَكَ هُنَا
فِي هَذَا الرُّكْنِ الصَّغِيرِ
فَهِيَ خَرَابٌ أَيْنَمَا كُنْتَ فِي الْوُجُودِ
القصيدة أعلاه هي قصيدة بعنوان "المدينة" للشاعر قسطنطين كفافيس (كونستانتينوس بترو كفافيس) الذي ولد وتوفي بالأسكندرية (1863ـ 1933)، يُعد قسطنطين من أعظم الشعراء اليونانيين المعاصرين، شاعر متفرد مجدد أصيل في الشعر اليوناني، لم يَنْشُرْ قصائده في ديوان ولم يكن مهتما بالشهرة قط ولا يوليها أدنى اهتمام، كان قسطنطين كفافيس يكره ثرثرة الناس والعقول الجوفاء ويفضل الخلوة والقراءة، تفيض قصائده بمسحة من الحنين ونغمة من الحزن الرصين والحسرة الخفية، ومستقبل لا يرى فيه قسطنطين أَي أَمَلٍ.
وفي هذا الصدد يقول قسطنطين كفافيس في قصيدته "مَلَلٌ":"اليوم الرثيب يأتي في أعقاب يوم رثيب آخر مماثل.. الأمور ذاتها ستحدث ثم ستحدث من جديد.. اللحظات الشبيهة تمر بنا وتمضي.. شهر يمر ويأتي بشهر آخر.. تلك الأمور القادمة يمكن للمرء أن يخمنها.. إنها أحداث الأمس المملة.. ويُضحي الغذ بذلك كما لو لم يكن فيه من الغذ شيء".
ويمكن للمرء أن يتساءل ماذا باستطاعته أن يفعل؟ عندما تُضحي الحياة على هذا النحو الرَّثِيبِ الْمُمِلِّ؟ هنا يُجيب قسطنطين كفافيس في قصيدته التي عنونها "قَدْرَ إِمْكَانِكَ":" لو لم يكن بإمكانك أن تصنع حياتك كما تريد.. فعلى الأقل حاول ما استطعت أن تفعل هذا.. ولا تُرْخِصْ من شأنها بكثرة الاحتكاك بالناس وبالإفراط في حركاتك وكلماتك.. لا تُحِطَّ من قدرها بالطواف بها مُعْرِضاً في زحمة الروابط والمخالطات التي تزخر بها حماقات كل يوم.. حتى تُمْسِي حياتُك ضيفاً ثقيلاً عليكَ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق