الثروة التي لا تفنى

الثروة التي لا تفنى
يُحكى في قديم الأزمان والعصر والأوان أن فلاحا فقيرا فَقَدَ في أحد الأيام حصانه الوحيد الذي كان يُعَوِّلُ عليه في  أعماله الحقلية وفي قضاء الكثير من مآربه الأخرى، فلما عَلِمَ الجيران بالخبر جاؤوا جميعا مواسين له في مصيبته قائلين: أية مصيبة حلت بك! هز الفلاح كتفيه للتعبير لهم عن عدم اهتمامه بما يقولون، ثم تطلع إليهم بنظرة تنم عن أن لا فائدة تُرْتَجَى منهم ولا خير يُؤْتَى منهم وقال: ربما مصيبة..ربما خير.. فمن يدري!
في اليوم التالي رجع الحصان إلى صاحبه ومعه ستة جياد برية رائعة أدخلها الفلاح إلى حظيرته، فما إن علم الجيران بالخبر حتى تدفقوا عليه كعادتهم مهنئين قائلين: أي خير أصابك! هز الفلاح كتفيه وتطلع إليهم بنظرة تنم عن تأففه من فضولهم وقال: ربما خير..ربما مصيبة.. فمن يدري!.
في اليوم الثالث عمد الإبن الوحيد للفلاح إلى أحد الجياد البرية فأسرجه عنوة واعتلى صهوته، ولكن الجواد القوي الجموح رماه عن ظهره فوقع الإبن أرضا وكُسِرَتْ ساقه، فسرى الخبر بسرعة البرق إلى أسماع الجيران، فجاؤوا فرادى وجماعات مظهرين حزنهم نفاقا ومعبرين عن تأسفهم قائلين: أي مصيبة حلت بك! فهز الفلاح كتفيه وتطلع إليهم بنظرة تنم عن حنقه وتضايقه من نفاقهم وقال: ربما مصيبة..ربما خير.. فمن يدري!
في اليوم الرابع جاء ضابط التجنيد في مهمة من الحاكم لاختيار وتسجيل المجندين الجدد كي يلتحقوا بالجيش، فسجل جميع شباب القرية الذين وجدهم مؤهلين للخدمة العسكرية باستثناء ابن الفلاح الفقير الذي وجده عاجزا فاستغى عنه، فما إن سمع أهل القرية، الذين جُنِّدَ جميع أبنائهم بالخبر حتى جاؤوا إلى الفلاح مهنئين قائلين: أي خير أصابك! هز الفلاح رأسه ونظر إليه بنظرة تنم على أن لا حول ولا قوة لهم وقال: ربما خير.. ربما مصيبة.. فمن يدري!
كل ما يبدو للوهلة الأولى شرا مستطيرا يفر منه الناس يمكن أن يكون منطويا على خير كبير مخفي لا يمكن إدراكه ولا حتى الشعور به، وكل ما يبدو للوهلة الأولى خيرا يتسابق نحوه الناس ويتنافسون لدرجة الاقتتال من أجل الظفر به يمكن أن يكون منطويا في الواقع على شر حقيقي قاتل ومدمر، وقد قال في ذلك الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى قولا بليغا:
 وَأَعْلَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ     
                          وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ 
والإنسان مهما فعل ومهما نَظّرَ وتنبأ وخطط ونظم من أجل أن يحيا حياة طيبة وتلكم في كل الأحوال هي غايته المثلى، فإنه في جبليته وفي رحلته الأرضية القصيرة سيظل متنقلا من قدر الله إلى قدر الله إلى أن يوافيه الأجل المحتوم، ومع ذلك يبقى ما بين هذين القدرين ذو إرادة حرة في الاختيار واتخاذ القرار لوحده.
إن الثروة التي لا تفنى تكمن في الرضاء بالقَدَر الذي قُدِّر للإنسان في هذه الحياة بدون شكوى ولا تذمر، وقليل مِنَ الناس مَنْ لا يشكون ولا يتذمرون، وهؤلاء هم من قال فيهم الحكيم الصيني لاو تسو: "الرَّجُلُ الَّذِي يَرْضَى بِالْقَدَرِ مِمَّا كَانَ مِنْ نَصِيبِهِ لاَ يَعْرِفُ الْخَرَابَ".  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق