خداع الصور والمظاهر

وباء المظاهر اجتاح الناس كلهم ونَادِرٌ فيهم  من يهتم بالجوهر
حدثنا الأديب والمفكر والمؤرخ والكاتب المصري الكبير أحمد أمين رحمة الله عليه في إحدى مقالاته النيرة التي عنونها ب"الكم والكيف" عن إحدى الأمراض العضالة التي تنخر أجساد المجتمعات العصرية المادية العبثية، والتي تتجلى في اغترار الناس بالمظاهر وعدم اهتمامهم بالجواهر: أنه رُوِيَ أن الطبيب الإنسان ابن سينا رحمة الله عليه الملقب -عن جدارة واستحقاق- بالشيخ الرئيس وأمير الأطباء وأبي الطب الحديث كَانَ يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَهَبَهُ حَيَاةً عَرِيضَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَوِيلةً، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي بالْحَيَاةِ الْعَرِيضَةِ حَيَاةً غَنِيَّةً بِالتَّفْكِيرِ وَالإِنْتَاجِ وَالْعَطَاءِ، وَيَرَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمِقْيَاسُ الصَّحِيحُ لِلْحَيَاةِ، وَلَيْسَ مِقْياسُهَا طُولُهَا إِذَا كَانَ الطُّولُ فِي غَيْرِ إِنْتَاجٍ وَلاَ عَطَاءٍ نَافِعَيْنِ لِلْبَشَرِيَّةِ بِلاَ ضَرَرٍ وَلاَ ضِرَارٍ.
فكثير من الناس ليست حياتهم إلاّ يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة أكل وشرب وجنس ونوم كالأنعام بل أشد ضلالا، أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم، هؤلاء إن عمّروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد، قي حين أنه قد يُقَدِّرُ يوما واحداً طوله أربع وعشرون ساعة بعشرات السنين إذا كان هذا اليوم عريضا في منتهى العرض، فقد يُوَفَّقُ المفكر في يومه إلى فكرة تُسْعِدُ الناس أجيالا أو إلى عَمَلٍ أو اختراعٍ يُسْعِدُ آلافا، فحياة هذا وإن قَصُرَتْ تساوي أعمار آلاف بل قد تساوي عمر أمّة، لأن الْعِبْرَةَ بالكيف وليس بالكم.
وليس على الله بِمُسْتَنْكَرٍ أن يجمع العالم في واحد، وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل إلاّ بعد نُضْجِهِ وَكَمَالِهِ.. وَالْكَمَالُ لله وحده، أمّا الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها فأكثر ما يعجبهما الكم، فالريفي عنده خَيْرُ الْخِيَارِ ما كَبُرَ حجمه وبيع بالأكوام، والمدني خَيْرُ الْخِيَارِ عنده ما نحف جسمه وكان كالقشّة وبيع بالرطل، والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف، فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجراً رأيت أكثر الترغيب في الكم، وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور، فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد، فهم يأتونهم من نواحي ضعفهم وموضع المرض منهم، وَقَلَّ أن يرغبونهم في الشيء بأنه من الجيد أو عالي الجودة، لأن هذا تقدير للكيف لا يُقَدِّرُهُ إلاّ الخاصة وأصحاب الأذواق الرفيعة والعقول النيرة.
وكل إنسان قد مرّ بمرحلة الطفولة، والأمم جميعها مرّت كذلك بهذه المرحلة فَعَلِقَ بأذهانهم تقدير الكم ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا، وأصبح حتى الخاصة منهم ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي، وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة، ألاَ ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام ولو لم نعرف قيمته، ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره لأول وهلة من غير أن نعرفه، وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلاّ من خداع الكم، ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نَتَبَيَّنَ الكيف وَخِدَاعُ الصُّوَرِ وَالْمَظَاهِرِ.
نرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة فنعتقد فيه العلم والدين، مع أن لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين، وإن كان ثمّة علاقة فعلاقة الضدية، لأن الدين محلّه القلب والعلم موطنه الدماغ، وإذا مُلِيءَ القلب دينا والدماغ علما احتقر المظاهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي، بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم واعتقد أنه أبعد ما يكون عمّا ينشده من دين وعلم، وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم فقالوا: تَرَى الْفِتْيَانَ كَالنَّخْلِ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدَّخْلُ، والدَّخْلُ هو الْعَيْبُ الْبَاطِنُ الذي يخفى على أكثر الناس، وقال الشاعر عباس بن مرداس:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ    
            وَفِي   أَثْوَابِهِ    أَسَدٌ   مُزِيرُ
وَيُعْجِبُكَ    الطَّرِيرُ    فَتَبْتَلِيهِ  
            فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ
وفي كل شأن من شؤون الحياة وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم، ولنأخذ الأدب مثلا، فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيراً ما باهوا بكثرة ما قرؤوا، والكتّاب بكثرة ما كتبوا، والصحافة كثيرا ما خَدَعَتْ الْقُرّاءُ بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات، مع أن الصفحات وحدها كم ولا قيمة لها ما لم يَصْحُبْهَا الكيف، وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة تُرَغِّبُ قرّاءها بالكيف فقط وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل لأن أكثر الناس لم يُمْنَحُوا بعد ميزان الكيف.
وقد أَدَّتْ كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش يُصاغ في صفحة، وما يُصاغُ في عمودٍ يَصِحُّ أن يُصاغَ في سطرٍ، ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا تلغرافا اختاروا أَوْجَزَ الألفاظ لأغزر المعاني، ولم يفعلوا شيئا من ذلك في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؟ ولعلهم يفعلون ذلك لأن الكلمات في التلغراف تقدر بدفع المزيد من البقشيش عن كل كلمة زائدة وليس كذلك فيما عَدَاهَا، إن كان هذا هو السبب دلّ على تقدير البقشيش أكثر مما يُقَدَّرُ زمن القارئ والكاتب، وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مَثَلٍ لِغَفْلَةِ الناس في تفضيلهم للكم على الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب وسموهما إسماً خاصاً هو الإيجاز والإطناب، واعتبروا الإيجاز أشرف الكلام والإجادة فيه بعيدة المنال لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة، فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق إن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فأكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها تلغرافات، وإذن لافتقدنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة، وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس فان أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى، وأريد أن يقوّم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف.
ولعل من ألطف ما كان، أني حين بلغت هذا الموضع من مقالتي أخذت أَعُدُّ صفحات ما كَتَبْتُ، فوجدتها قليلة العدد فآلمني ذلك لأني لم أبلغ ما توقعت أن يكون، ولأني خشيت أن يستصغرها صاحب الرسالة وقراء الرسالة وفرحت بهذه الملاحظة لأنها سدت فراغا ما في المقالة يكمل بعض ما فيها من قِصَرٍ، ألسنا جميعا عُبَّادَ كَمٍّ؟ أو ليس هذا من نوع تقدير الخيار بالأكوام، وتقديم وتفضيل المظهر على الجوهر؟؟؟

هوامش:

مزير: حازم
طرير: شاب ناعم 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق