من هنا نبدأ

"إنه من الحماقة أن تظن أنك ستحصل على نتائج جديدة وأنت تكرر نفس الشيء بعينه" ألبرت أينشتاين 
من هنا نبدأ
الإنسان العربي والمسلم بشكل عام مصاب بمرض ازدواج الشخصية الحاد وآفة النفاق نتيجة الكبث السياسي والعاطفي والنفسي التي عانى منها على مر التاريخ ومازال، وذلك كردة فعل عن عدة ظواهر شاذة عاشتها هذه المجتمعات، من تسلط وتعسف، وقهر وظلم، وحرمان عاطفي، وبطش واستبداد، وفساد للأنظمة التي توالى حكمها على هذه الأمة المهدورة، وجميع من والاها من الفقهاء الذين كانت مهمتهم تكمن بالأساس في إخراج الأحاديث والفتاوى وتفصيل الحلال والحرام على المقاس الذي يعجب ويناسب هذه الأنظمة.
وكانت النتيجة بطبيعة الحال كما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع العراقي علي الوردي رحمه الله في مؤلفه الرائع 'وُعَّاظُ السَّلاَطِينِ' أن أضحى هذا الإنسان كثير الوعظ والإرشاد، وكثير التذكير بعذاب جهنم والسعير، ونعيم الحور العين لدرجة التخمة التي تثير التذمر، فتراه في كل ناد، على الفضائيات، على الأنترنت، في الصحف والمجلات، في المجالس والمنتديات يحث الناس على التحلي بالوطنية والزهد والعدل والصدق والواجب وحسن الخلق والمساواة والفضيلة والعلم والعفو والتسامح والعفة والصبر والشرف والشجاعة والرحمة والحياء والتواضع لله والأمانة والاستقامة والإخلاص والإحسان والرفق بكل المخلوقات.
تراه يُطالب بكل هذه الخصال الرائعة والصفات الحميدة في مجتمعات تعج حتى حوافيها وأعلى المستويات فيها بالمشعوذين والدجالين والفسقة والمنافقين والمجرمين والقوادين والمغتصبين والبيدوفيليين والشواذ والظلمة والقساة والمستبدين والكذابين والخونة واللصوص والغشاشين والمرابين والمرتشين والمزورين والفاسدين والجبناء.
غير أن هذا الواعظ عندما يختلي  بنفسه  ويظن أنه لا يراه أحد، تنبت له قرنا شيطان في مقدمة رأسه، فتجد على سبيل المثال فقيها يراود تلامذته الصغار عن أنفسهم أو يهتك أعراضهم، وتجد أستاذا جامعيا يهدد طالباته بتنقيطهن تنقيطا متدنيا ويحول بينهن وبين شواهدهن ودرجاتهن إن لم تخضعن لرغباته وتستسلمن لنزواته التي  قد تتحول بقدرة قادر إلى واجب مقدس، وتجد سياسيا أو منتخَباً لا يفرق بين ماله الذي في جيبه وبين مال الله الذي اغتصبه ظلما وعدوانا من بيت مال المستضعفين من المواطنين،  وتجد رجل دين عبدا لأطماعه الدنيوية ونزواته الشاذة المريضة ينوم الناس تنويما مغناطيسيا حتى يستسلموا لجلاديهم وسارقي أرزاقهم بأساطير وخرافات كهنوتية ما أنزل الله بها من سلطان.
إن معظم مؤلفات الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم رحمه الله قد تطرقت إلى هذه الازدواجية الخطيرة، إلا أن إحدى الفقرات أثارت انتباهي لصياغتها بشكل مستوف ومقتضب تعبر أحسن تعبير عن هذه الحالة المرضية، عندما اعتبر أنه فِي مُدُنِ الشَّرْقِ (الْمُسْلِمَةِ!!) الْوَقُورَةِ حِينَ يَبْلُغُ البَدْرُ تَمَامَهُ وَيَقْبِضُ كُلُّ امْرِئٍ رَاتِبَهُ، تُضَاءُ الْمَقَاهِي وَبُيُوتُ الدَّعَارَةِ، وَتَتَصَاعَدُ خُرَافَاتُ الحُبِّ الشَّبِقَةِ عَبْرَ سَحَابَاتِ التِّبْغِ وَالحَشِيشِ، وَيَحْتَسِي الرِّجَالُ حَاجَتَهُمْ مِنَ النَّبِيذِ، وَيَتَحَدَّثُونَ عَنِ النِّسَاءِ وَالْغِلْمَانِ، وَلَحَظَاتِ الشَّبَقِ الْعَمِيقَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْعَرَقِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ.. طَارَ الغُرَابُ.. وَاسْتَعَادَ (الرِّجَالُ) وَقَارَهُمْ مُحَاوِلِينَ أَنْ يَتَفَادُوا ذِكْرَ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَّةِ، فَتَرَاهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ الْفَارِّينَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ تَحْتَ ذَرِيعَةِ تَأْدِيَّةِ الصَّلاَةِ الْجَمَاعِيَّةِ حَتَّى لاَ يَقُول عَنْهُمُ النَّاسُ بِأَنَّهُمْ مُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ، لَقَدْ عَرَضْتُ عَلَى الفَضِيلَةِ بِكُلِّ الأَثْمَانِ، وكَتَبْتُ الْمَقَالاَتِ الجَيِّدَةَ الصِّيَّاغَةِ لِحِمَايَةِ الأَخْلاَقِ رَيْثَمَا تَغِيبُ الشَّمْسُ وَتَتَعَذَّرُ الرُّؤْيَا.. إِنَّهُ مُنْتَهَى النِّفَاقِ.
غير أن الأمراض التي تنخر نخرا قاتلا في جسد هذه الأمة لا تنحصر فقط في مرض ازدواج الشخصية والنفاق، بل هنالك الكثير من الأمراض الأخرى التي تشل هذه الأمة وترهن حاضرها للصدفة أو 'البركة'  ومستقبلها للمجهول، وقد تناول هذا الموضوع الطبيب الجراح والمفكر السوري الغني عن التعريف خالص جلبي في مؤلفه 'كَيْفَ تَفْقِدُ الشُّعُوبُ الْمَنَاعَةَ ضِدَّ الاسْتِبْدَادِ' عندما اعتبر أن المجتمع العربي والإسلامي مصابٌ بعشرة أمراض هي: 
-تَقْدِيسُ الآبَاءِ،  -تَأْلِيهُ القُوَّةِ، -احْتِقَارُ العِلْمِ، - تَبْرِءَةُ الذَّاتِ وَاتِّهَامُ الآخَرِينَ، -إِجَازَةُ الغَدْرِ، -ظَنُّ أَنَّ النَّصَّ يُغْنيِ عَنِ الوَاقِعِ أَوْ مَرَضُ انْفِكَاكِ النَّظَرِيَّةِ عَنِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّارِيخِ، -الاِهْتِمَامُ بِفَضَائِلِ الِْجهَادِ بِدُونِ مَعْرِفَةٍ بِشُرُوطِهِ وَهُوَ الخَرَاجُ الذي فَجَّرَ كُلَّ مَشَاكِلِ العُنْفِ فِي الْمُجْتَمَعِ العَرَبِي، -رَفْضُ المُسْلِمِينَ لِلدِّيمُقْرَاطِيَّةِ مَعَ أَنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى الرُّشْدِ مِنْ كُلِّ مَا عَلَيْهِ وَاقِعُ الْمُسْلِمِينَ السِّيَّاسِي اليَوْمَ، -تَمَكُّنُ العَقْلِ الخَوَارِقِي الأُسْطُورِي فِي حَيَاتِنَا وَانْحِسَارُ العَقْلِ الْعِلْمِي، -ظَنُّ أَنَّ الأَحْكَامَ لاَ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الأَزْمَانِ.
أما عن الأجهزة البوليسية والعسكرية لهذه المجتمعات فإنها تقوم على العنف واحتكاره والضرب في أي لحظة، فالشرطي تجده مسلحا بمسدس مَحْشو الطلقات، والقوات المسلحة مبرمجة على الأوامر مثل أي آلة حديدية فاقدة الإرادة، تعمل بضغط الأزرار  لقتل أي كان في أي لحظة، وميزة هذا النظام العسكري الذي اخترعه الجنس البشري مع ظهور المدنية وولادة الحضارة أنه جِهَازٌ مُسْتَلَبُ الإِرَادَةِ فَاقِدُ التَّفْكِيرِ مُبَرْمَجُ التَّوَجُّهِ مِثْلُ دَيْنَاصُورٍ لاَحِمٍ بِدِمَاغِ ذُبَابَةٍ، ويعتبر الدكتور خالص جلبي في مقال له تضمنه كتاب 'أَيُّهَا الْمُحَلَّفُونَ اللهُ لاَ الْمَلِكُ' بأن هذه المجتمعات تستورد السيارة والمجالس النيابية، ولكنها لا تستطيع إنتاج سيارة ولا إيجاد حياة نيابية، في قصة مُتَرْجَمَةٍ يَرْوِيهَا أَخْرَسٌ مُهِمَّتُهُ الْكَلاَمُ.
أما الدكتور المهندس المدني السوري المجدد محمد شحرور رحمه الله مؤلف 'الكتاب والقرآن'، الذي انتبه بعد الهزيمة المدوية للعرب أمام الصهاينة سنة 1967  لوجود مشكلة كبيرا جدا في التفكير العربي وفي العقل الإسلامي، الشيء الذي دفعه  لينكب على دراسة الدين والثرات والقرآن، ليكتشف بنفسه أنه لايوجد بحكم الشريعة الفقهية الإسلامية أي شيء مطابق للمصحف، مما حدا به إلى تطبيق أساليب لغوية جديدة في محاولة منه لإيجاد تفسير جديد للقرآن الكريم، وتبعا لذلك توصل إلى أنه لايوجد شعب يعيش عقدة الذنب بصورة دراماتياكية على وجه الكرة الأرضية مثل المسلمين لكثرة المحرمات لديهم، وهي أخطر أزمة تتخبط فيها هذه المجتمعات منذ وفاة الرسول محمد (ص) لكثرة ما سلسل فقهاء السلاطين حريتها من محرمات  تكاد تشل حركتها في أي ميدان من ميادين الحياة، ولم يتركوا أمامها خيارا آخر غير الوقوف مجمدين عند أحاديث الفقهاء وتفسيرات المفسرين للقرآن الكريم الكثيرة والمتنوعة تعود إلى القرن السابع الميلادي وما جاء بعده تباعا.  
أما الدكتور المصري الراحل عبدالودود شلبي المحاضر الكبير رحمه الله فقد تطرق إلى هذه الازدواجية في مؤلفه 'عَرَبٌ وَمُسْلِمُونَ لِلْبَيْعِ' عندما أوضح بأن حياة المسلمين لا تعرف نظاما للسلوك يتميزون به عن غيرهم من الأمم، لأن في حكمهم أَمْشَاجُ قوانين وأَخْلاَطُ نظم، وفي قوانينهم وتشريعاتهم مزيج من الإيمان والكفر، وفي اقتصادهم تصطدم مشاعرك بلون أحمر فاقع يقشعر منه البدن، ولون قاتم يُحرَم فيه الإنسان من الأسودين الماء والتمر، وترف داعر يشرف فيه السادرون (المستهترون) بالغواية والخمر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق