من المسلم به لدى الكثير من بني البشر أن الحمار هو رمز الغباء وكل الصفات المذلة والمشينة، غير أنني أرى غير ذلك، لأنه من الظلم والجور أن يُنعت أو يُوصف أو يُشبه كل من يوثر أعصابنا أو يسرق أحلامنا ويتلاعب بمستقبلنا من بني جلدتنا بالحمار، هذا الحيوان الوديع الصبور الخدوم الوفي للبشر منذ ما يزيد عن خمسة آلاف سنة في الركوب وحمل الأثقال وتوصيلها إلى أبعد الأماكن دون عناء منهم، فبالله على هؤلاء هل رأوا يوما ما حمارا لصا أو مرتشيا أو مزورا أو كذابا أو منافقا؟، فالحمار طوال حياته يعمل بكد وصبر يصل أحيانا إلى درجات الألم القصوى التي لا يعلم مداها إلا الخالق جل جلاله، دون أن يشتكي أو يُطالب تحسين مؤونة أو تعويضا عن أوقات العمل الإضافية أو منحة عن الأثقال التي فوق طاقته، حتى إذا ما تسلل إليه الوهن والمرض وخارت قواه رأيت الغدر والانتهازية البشرية تتجلى في أدق صورها وأوضحها حينما يتم التنكر لجميله وخدماته لسنين عديدة ويتم التخلص منه بسرعة البرق، ليهلك بعد ذلك وحيدا دون معيل في يوم حار على قارعة طريق مقفر من شدة المرض والجوع.
فعلى عكس الصورة السلبية الشائعة والرائجة عنه بين الكثير من البشر، أثبت العلم والواقع أن الحمار حيوان ذكي ومخلص يتعلم ويفهم ويتحمل ظلم الإنسان وجهله، ومن الحمير من إذا ما قُورنت أعمالها وأفعالها وخدماتها الكثيرة التي تسديها بدون مقابل ببعض أفعال البشر من ظلم ونهب وغش فلا ريب أن كفة الحمير سترجح رجحًا، بل لن أكون مبالغا إذا قلت أن ليس هنالك حتى مجال للمقارنة.
ومن النوادر التي تفند غباء الحمار وتؤكد مواقف لا تخلو من فطنة وذكاء هذا الحيوان الصبور، أن حمارَ أعرابي بعد رجوعه من السوق الأسبوعي محملا بالمقتنيات توقف أمام الدار وامتنع عن الدخول، فبدأ صاحبه يضربه ويكيله من الشتائم ما لا يعد أو يحصى كي يدخل إلى الفناء، لكن الحمار لم يتقدم خطوة واحدة على الرغم مما لحق به من الأذى المادي والمعنوي، فلما تمادى صاحبه في ضربه ووخزه حتى أدمى قفاه، حينها تقدم الحمار ودخل بتُؤَدة دون عناء، لكن صاحبه بقي في الخارج منبطحا أرضا فاقدا للوعي بعد ارتطام رأسه بسقف الباب، ومما يدل أيضا على ذكاء الحمار وحدسه أنه لا يشرب ماء قذرا أو ساما، فهو يتفحص الماء جيدا قبل تناوله ويستطيع معرفة ما إذا كان هذا الماء نظيفا أم لا، والمثير للعجب أن القرويين يراقبونه قبل أن يشربوا الماء، فإن وجدوا الحمار يشرب منه اعتبروه نظيفا وشربوا من بعده، ونظرا لما يتميز به هذا الحيوان من حاسة وحدس في اقتفاء المسالك الجبلية الأنسب مسلكا والأكثر أمانا، ونظرا أيضا لوضعية عيونه في رأسه التي تسمح له في نفس الوقت برؤية حوافره الأربع وأين يضعها فإن أمهر القرويين وأكثرهم خبرة وأمهر متسلقي الجبال في العالم غالبا ما يتبعون حميرا من أجل اقتفاء طرق مستعصية ووعرة في المرتفعات الجبلية، ولعل المثل الفرنسي الشهير الذي يقول: "إن أمهر المهندسين يتبع حمارا لشق طريق في جبل" لهو خير دليل على أن هناك بعض من البشر من هم أدنى مرتبة من الحمير بكل المقاييس، تُرى من هو الغبي إذن؟