الموت عطشا

يعتبر الماء أهم العناصر لنشوء واستمرار الحياة على الكوكب الأزرق، فمنذ ظهوره على الأرض منذ ما ينيف على 3.50 مليار سنة وكمية المياه المتواجدة مستقرة بطريقة عجيبة لا تضمئل ولا تزداد، متمثلة في 1.35 مليار كلم مكعب، مكونة أساسا من مياه البحار والمحيطات التي تعتبر المخزون الرئيسي للحياة، فمنها تنطلق دورة التساقطات التي تروي كوكبنا، ومن أصل 430 ألف مليار متر مكعب من المياه المتبخرة يعود إلى كوكب الأرض 40 ألف مليار متر مكعب على شكل تساقطات، فالمياه تغطي ثلاثة أرباع سطح الأرض منها 97.5% من المياه المالحة، بينما المياه العذبة لا تمثل سوى 2.5 % أي37800 مليار متر مكعب، وجميع الكائنات الحية تختزن كمية كبيرة من المياه لأن كل العمليات الفيزيولوجية والبيوكيماوية تتم في وسط مائي من الجنين حتى البالغ ومن العشب حتى الشجر المعمر ومن النملة حتى الحوت الضخم كلها تتكون حول الماء ومن الماء.
والمستهلك الأول للمياه العذبة هو النشاط الفلاحي ب 70%، يليه النشاط الصناعي ب 20% ثم النشاط المنزلي ب 10%، لكن التحدي الرئيسي الذي يواجه البشرية مستقبلا هو الانفجار السكاني وما يحدثه من ضغط متزايد على الموارد الطبيعية خاصة منها المياه، فسكان الكوكب البالغ عددهم حاليا 6.86 مليار نسمة سوف يرتفع إلى 9 ملايير نسمة سنة 2050، بحيث سيزداد السكان في افريقيا من 750 مليون إلى 1.70 مليار نسمة، وفي آسيا من 3.50 إلى 7.20 مليار نسمة، وحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن ما لا يقل عن 25 بلدا افريقيا سوف يعاني من خصاص وشح في المياه بحلول عام 2025، هذا النمو السكاني سينجم عنه توسع عمراني متزايد باطراد للمدن، إذ أن عدد المدن التي تفوق ساكنتها أكثر من 10 ملايين نسمة سيبلغ 40 مدينة، وسيبلغ عدد التجمعات السكنية التي تفوق ساكنتها مليون نسمة أكثر من 600 تجمع سكني، وسترتفع نسبة السكان المدنيين إلى 60 %من مجموع سكان الكوكب، بينما لم تكن هذه النسبة تتجاوز 46% سنة 1996.
وحاليا هناك نقص حاد في المياه يصيب شخصا من كل ستة أشخاص، وأكثر من مليار شخص لا يتوفرون على ماء صالح للشرب، وحوالي مليوني شخص يموتون سنويا لانعدام مياه صالحة للشرب، والموارد المائية العذبة المتوفرة على الأرض إضافة إلى محدوديتها فهي موزعة بطريقة غير منتظمة على سطح الكوكب، فدول مثل البرازيل، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، الصين، أندونسيا، الهند، كولومبيا والزايير تتوفر على 60% من الموارد المائية العالمية العذبة، وعلى العكس من ذلك نجد أن المناطق الجافة والشبه الجافة المتمثلة في الصحراء الأفريقية الكبرى، المغرب العربي، الشرق الأوسط، والغرب الأسترالي ألخ ...والتي تمثل ما يناهز ثلث مساحة اليابسة لا تتوفر سوى على 2% من حجم الموارد المائية العالمية العذبة سنويا. فبينما نلاحظ إسرافا وتبذيرا للموارد المائية في الجانب الغربي من الكوكب نجد هناك شحا وتقتيرا على الجانب الشرقي منه، فكل أمريكي يستهلك يوميا 450 لتر من المياه العذبة، بينما الأفريقي جنوب الصحراء الذي كان دائما يعاني على مر العصور من الظلم والاضطهاد والاستعباد يكتفي فقط ب 10 إلى 20 لتر يوميا على أكثر تقدير، في حين توصي منظمة الصحة العالمية لضمان ظروف حياة بسيطة للناس، أقول بسيطة فقط، يجب أن لا يقل الاستهلاك اليومي لكل فرد عن 50 لتر يوميا.
فإن كانت النزاعات والحروب حاليا وفي ما مضى تنجم حول المواد الأولية والموارد الهيدروكاربونية فإنه من المحتمل وليس مستبعدا أن تنشأ توثرات قد تترتب عنها حروب حول موارد المياه العذبة مستقبلا، فمنذ فجر التاريخ نشأت معظم الحضارات على ضفاف الأنهار، فتأسست دول كثيرة على طول مجاري الأنهار، وثلث المناطق الحدودية بين الدول في العالم اليوم محددة بأنهار وبحيرات، وقد تم إحصاء ما لا يقل عن 260 حوض نهري حول العالم مقسم بين دولتين أو أكثر، يقطن فيها 40% من سكان العالم، وتوجد حاليا أكثر من 15 دولة تعتمد على أكثر من 60% من استهلاكها للمياه على موارد آتية من دول أخرى خارج حدودها (مصر، السودان، سوريا، العراق، تشاد، النيجر، موريطانيا، باكستان، تركمنستان، الكمبودج، الأرجنتين، هنغاريا، بلغاريا ...)، فإذا كانت الأنهار التي تخترق أراضي بعض الدول تكفي لسد احتياجاتها حاليا فإن ذلك الوضع يبقى هشا ومعرضا في أي وقت وحين للالتفاف أو عدم القبول من طرف الدول التي تتحكم في عالية الأحواض المائية المغذية لتلك الأنهار، ويعتبر هذا الوضع اليوم أحد العناصر الرئيسية للجغرافية السياسية للمياه، التي جعل منها التاريخ أحد رهانات النزاع بين الدول، كمثل قصف حقول الأرز بفييتنام وتدمير محطات الضخ ومعالجة المياه العادمة بلبنان والبوسنة وصربيا وتعطيش سكان كوسوفو إلخ...
وخوفا من مستقبل ينبأ بشح في المياه بدت ملامحه تظهر جلية في العشرين سنة الماضية، تحاول الدول سواء منها المتحكمة في الأحواض العليا المغذية للأنهار أو الدول المخترقة بواسطة أنهار مشتركة مع دول أخرى إلى الاستحواذ واستغلال موارد المياه التي ما تزال متوفرة وفرض الأمر الواقع، وهناك اليوم ثلاثة أمثلة لتوثرات حقيقية حول مصادر المياه في العالم العربي:
اعتمدت مصر على تنمية مكثفة لفلاحة تقليدية منذ أواخر القرن التاسع عشر تعتمد بالأساس على موارد مياه نهر النيل (النيل الأبيض+النيل الأزرق)، الذي يتغذى بما نسبته 80 إلى 86 % عن طريق النيل الأزرق النابع من بحيرة تانا المتواجدة داخل الأراضي الإثيوبية، وقد تمت معاهدة بين مصر والسودان سنة 1929 تحصل بموجبها السودان على 4 ملايير متر مكعب ومصر على 48 مليار متر مكعب من مياه النيل، وتم وضع معاهدة جديدة سنة1959 محل المعاهدة القديمة تحصل بموجبها السودان على 18.50 مليار متر مكعب ومصر على 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، وقد رفضت إثيوبيا جملة وتفصيلا الاعتراف بما سمي "بالحقوق المكتسبة"، مما حدى بمصر إلى تطوير أطروحة "الحقوق التاريخية" فردت إثيوبيا على ذلك بحقوق "السيادة الترابية"، ولا زال التوثر إلى يومنا هذا سيد الموقف بين الدول المتواجدة في سافلة الحوض المائي والدول المتواجدة في عاليته.
أما في الشرق الأوسط فالنزاع المائي ينذر بمواجهة محتملة، إذ يتهم الفلسطينيون الكيان الصهيوني بالاستغلال المفرط للفرشة المائية الموجودة تحت الأراضي المغتصبة التي يستخرج منها اليهود ثلثي احتياجاتهم، ويقع ما يناهز نصف المنشآت الهيدروليكية داخل الأراضي المحتلة عام 1967، وهناك تضييق وتعطيش للفلسطينيين في الضفة إذ ليس لهم الحق في حفر آبار جديدة منذ سنة 1968 ولا يستغلون سوى 10 % من الموارد المائية، فسياسة الصهاينة بخصوص موارد المياه ليست وليدة اليوم فهي تعود إلى ما يزيد على 40 سنة خلت، تمكنت خلالها من التحكم المفرط في صبيب نهر الأردن الذي يزود فلسطين وسوريا والأردن،وموازاة مع ذلك تمكن الصهاينة خلال انتصارهم في حرب ستة أيام  1967 من وضع يدهم على المياه الجوفية للضفة وهضبة الجولان التي كانت سورياقبل الاحتلال تتحكم من خلالها في تحويل جزء من صبيب نهر الأردن.
وهناك قلق أيضا بشأن دول الهلال الخصيب تركيا وسوريا والعراق التي تتقاسم مياه نهري دجلة والفرات التي يعيش حوالي 50% من ساكنتها على الفلاحة، فتركيا تساهم ب72% في الصبيب المائي الإجمالي لنهري دجلة والفرات من داخل أراضيها والعراق ب18.5% وإيران ب 7.50 % ثم سوريا ب 2 %، ولقد سعت تركيا التي تتمتع بموقع استراتيجي في عالية الحوض المائي منذ سنة 1985 إلى تعبة مواردها المائية بغية تطوير الجنوب الشرقي من هضبة الأناضول حيث كان المستوى المعاشي المتوسط هناك أقل ب 47 % من المستوى المعاشي المتوسط بمجموع التراب التركي، فتقرر سنة 1989 إعطاء الانطلاقة لمشروع جنوب شرق الأناضول الذي من المفترض نهاية إنجازه متم سنة 2010 بغلاف مالي ناهز 32 مليار دولار آنذاك، يقضي بإنجاز 25 سدا ونفقا على رأسها سد أتاتورك الضخم الذي يعمل حاليا، و19 محطة هيدروكهربائية ستنتج 22 % من احتياجات تركيا للطاقة عام 2010، بتوليد 8.900 جيغاواط ساعة، ويعد هذا من أضخم مشاريع سلاسل توليد الطاقة في العالم، وري 1,70 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية الصالحة للسقي، وإنجاز هذا المشروع الضخم بأكمله لا شك أن تكون له تداعيات سلبية مستقبلا وغير محسوبة العواقب على الميدان الفلاحي في كل من سوريا وخصوصا العراق نظرا للضعف الذي سوف يحدث في الصبيب المائي للنهرين، سيما وأن معظم التنبؤات حول أحوال الطقس في العالم تنذر بتقلص في التساقطات المطرية قد تصل في بعض الدول إلى 25%.
فإن كان القرن التاسع عشر والقرن العشرون هما قرني اكتشاف البترول أو الذهب الأسود كما يسميه الأخطبوط الرأسمالي العالمي، واختراع السيارة والطائرة والصاروخ ونزول الإنسان على سطح القمر، فإن القرن الواحد والعشرين سيكون هو قرن التحدي الكبير للبحث عن الماء أو الذهب الأزرق وإكسير الحياة وترشيد استعماله واستهلاكه في جميع الميادين، والمحافظة عليه وتوزيعهه توزيعا عادلا بين الدول المتجاورة، وإلا كان المصير الموت عطشا من نصيب المستضعفين أولا، وليس من المستغرب أن تتوقع الأمم المتحدة أنه بحلول عام 2050 لن تكون هناك سوى 30 دولة فقط في العالم من أصل 223 دولة حاليا قادرة على توفير احتياجاتها من المياه العذبة لإطفاء ظمأ المزيد من نفوسها العطشى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق