شذرات من التراث 1

لقي الطاغية الحجاج أعرابيا، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من البادية، قال: ما بيدك؟ قال: عصا أركزها لصلاتي، وأُعِدُّها لعداتي، وأسوق بها دابتي وأقوى بها على سفري، وأعتمد عليها في مشيي، ليتسع بها خطوي، وأعبر بها النهر فتؤمنني، وأُلقي عليها كساء فيسترني من الحر، ويقيني من القر، وهي محل سفرتي وعلاقة إداوتي ومشجب ثيابي، أعتمد بها عند الضراب وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، تنوب عن الرمح في الطعان، وعن الحربة عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي، وأورثها من بعدي إبني، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى كثيرة لا تحصى.
 وقيل في النذل من الرجال إذا سَأَل أَلحْف، وإذا سُئِل سَوَّف، وإذا وعد أخلف، وإذا صنع أتلف، وإذا همَّ بالفعل الجميل توقف، ينظر بنظر الحسود، ويعرض إعراض الحقود، بينما هو خِلٌّ وَدُود، إذا هو خَلٌّ وَدُود، فناؤه شاسع، وضيفه جائع، وشره شائع، وسره ذائع، ولونه فاقع، وجفنه دامع، ودياره بلاقع، رديئ المنظر، سيئ المخبر، يبخل إذا أيسر، ويهلع إذا أعسر، ويكذب إذا أخبر، إن عاهد غدر، وإن خاصم فجر، وإن خوطب نفر. 
وسأل مرةً رجلٌ فتى مزهوا بنفسه يظن أنه الشمس والأفلاك تدور من حوله، فأجابه الفتى متهكما مستهزئا : ممن أنت؟ فقال الرجل: من بني عامر من صعصعة قال الفتى: من أيهم؟ قال الرجل: إن كنت أَرَدْت عاطفة القرابة فليكفك هذا المقدار من المعرفة فليس مقامي بمقام مجادلة ولا مفاخرة، وأنا أقول: فإن لم أكن من هاماتهم فلست من أعجازهم، فقال الفتى: ما رويت عن فضيلتك إلا النقص في حسبك، فامتعض الرجل لذلك، فجعل الفتى يعتذر، ويخلط الهزل والدعابة باعتذاره، وأطال الكلام، فقال له الرجل: يا هذا! إنك منذ اليوم أدبتني بمزحك، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك، وإنك لتَكْشِفُ من جهلك بكلامك ما كان السكوت يستره من أمرك، ويحك، إن الجاهل إن مزح أسخط وإن اعتذر أفرط، وإن حَدَّثَ أسقط، وإن قدر تسلط، وإن عزم على أمر تورط، وإن جلس مجلس الوقار تبسط (أكثر من الكلام)، أعوذ منك ومن حالٍ اضطرتني إلى احتمال مثلك. 
ولعل هذا الفتى المسكين فاته ما قاله الجاحظ بأن أفضل الكلام ما كان قليله يُغني عن كثيره، ومعناه ظاهر في لفظه، وكأن الله ألبسه من ثياب الجلالة، وغشاه من نور الحكمة، على حسب نية صاحبه وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه، منزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق