ماذا تساوي الثروة أمام قطرة ماء؟

جاء في كتاب "الكامل في التاريخ " لابن الأثير أن هارون الرشيد طلب ماء، فلما أراد شربه قال له ابن السماك:‏ ‏ مهلاً يا أمير المؤمنين! بقرابتك من رسول اللّه، لو مُنِعتَ هذه الشَّرْبة، بكم كنت تشتريها؟ قال:‏ ‏ بنصف مُلْكي، قال: اشرب...‏ ‏ فلما شرب قال:‏ ‏ أسألك بقرابتك من رسول اللّه، لو مُنعتَ خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال الرشيد: بجميع مُلكي...‏ ‏ قال له ابن السماك:‏ ‏ إن مُلْكًا لا يساوي شربة ماء وخروج بولة لجَديرٌ أن لا يُنافَسَ فيه!‏
من خلال هذه الواقعة التاريخية المعبرة تتجلى أهمية الماء بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية الموجودة على ظهر البسيطة، وأن الإنسان لن يعرف حقيقة قيمة هذا الكنز الثمين حتى يعصره الألم لكي يأخذ العبرة بعد ذلك، لذا ركز الإسلام على أهمية الماء باعتباره مصدر الحياة حيث وردت كلمة "ماء" في القرآن الكريم في أكثر من خمسين آية وأكثر من أربعين سورة وتم التركيز على أهمية تقنين استعمال المياه والمحافظة عليها من التبذير وحمايتها من الشوائب كافة واستغلالها استغلالاً عقلانياً وبكامل المسؤولية، وتُعتبر الشريعة الإسلامية أحد المصادر الأساسية للتشريعات المائية الدقيقة والموثقة ذات البعد البيئي والحضاري لما يزيد على أربعة عشر قرنا حيث تحتوي على عدة مبادئ يمكن إجمال البعض منها في كون الماء قسمة مشاعة للجميع لا يجوز منع فضله واستعماله بالرغم من جواز تملك الماء لمن كانت المياه الجوفية في أرضه، وأن الأسبقية والأولوية في الاستعمالات هي من نصيب شرب الإنسان والحيوان حتى قبل العبادات، ولا يجوز مطلقا لأحد أن يمنع الإنسان والحيوان من شرب الماء تحت أي ظرف كان.
وحسب العديد من التقديرات تشكل مياه البحر المالحة 94 % من المياه في العالم بينما المياه العذبة لا تشكل سوى 6 %، وتمثل الأنهار الجليدية 27 % من المياه العذبة و 72 % مياه جوفية ويتبقى أقل من واحد في المائة من المياه العذبة في الغلاف الجوي أو المجاري المائية أو البحيرات في أي وقت من الأوقات، وتتجدد الإمدادات من المياه العذبة باستمرار بفضل الأمطار والجليد بحيث يُقدر مجموع جريان المياه من القارات بنحو 41.000 كيلو متر مكعب في السنة يعود منها إلى البحر 27.000 كيلو متر مكعب على شكل تدفقات سيول و5.000 كيلو متر مكعب من الأماكن غير المأهولة، ويتبقى من هذه الدورة نحو 9.000 كيلو متر مكعب من المياه على نطاق العالم ليستغلها الإنسان.
ولا غرو أن تنشأ جميع الحضارات القديمة حول ضفاف الأنهار وبالقرب من مصادر المياه، ومنذ القِدم اعْتُبرت المياه من أهم التحديات التي واجهت الإنسان وحددت أماكن تواجده واستقراره ونظامه السياسي والاجتماعي و الاقتصادي وتحكمت بتطور حياته، ولأن حاجة الإنسان من المياه بدأت تفوق ما تمده الطبيعة فقد أصبحت مشكلة المياه تتصدر هموم سكان العالم إذ أن أكثر من خمس سكان العالم يعانون من أزمة توفر المياه العذبة والنقية، كما أصبحت مسألة المياه تحظى بأهمية كبيرة إقليمياً وعالمياً بحيث من المحتمل جدا أن الصراعات القادمة في العالم سيكون بعضها مرتبطا بمحاولة السيطرة على مصادر المياه ومنابعها.
لقد أضحى الوضع المائي حرجاً في كثير من الدول العربية وإن كانت غالبيتها تخطت حاجز العجز المائي، إلا أن بعضها يعرف عجزاً مائياً في غاية الخطورة، كما أن عدم توفر أغلبيتها على الاستقلالية في مصادر مياهها يزيد في تفاقم مشاكل التنمية، وفي ظل هذه الظروف تبقى السياسات العامة المتبعة حاليا لاستخدام الموارد المائية وإدارتها بعيدة عن المفاهيم الحديثة للإدارة المتكاملة ودون المستوى المرغوب فيه بالرغم من المجهودات المبذولة، فتبعا لإحصائيات المنتدى العالمي للمياه في قمته الرابعة التي انعقدت خلال شهر مارس 2006 بمكسيكو سيتي هنالك 19 دولة عربية تقع تحت خط الفقر المائي يعاني فيها أكثر من 50 مليون عربي راهناً من غياب المياه الصالحة للشرب إضافة إلى 80 مليوناً يعانون غياب الصرف الصحي الملائم، وتعتمد الدول العربية على مياه من خارج حدودها بنسبة 65%.
تذهب معظم موارد المياه العربية نحو سد حاجيات الميدان الزراعي الذي لا تزال أساليب الري فيه متخلفة تقنياً بشكل مذهل وتستهلك أكثر من
90 % من هذه الموارد، وتحصل الصناعة على 4 %، والشرب 5 %، كما تصل الى الدول العربية مياه من مصادر غير تقليدية مثل تحلية مياه البحر وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي والزراعي بكمية 7,6 مليار متر مُكعب، وتتساقط على الدول العربية أمطار بنحو 2.300 مليار متر مُكعب سنوياً، أما متوسط نصيب الفرد من الماء سنوياً في الدول العربية فبلغ 3.300 متر مكعب عام 1960 ما فتئ أن انخفض إلى 1.250 متراً مكعباً في التسعينيات من القرن الماضي، ويُقدّر راهناً بنحو 650 متراً مكعبا، أي أقل من خط الفقر المائي المُقدر بنحو 800 حتى 1.000 متر مُكعب سنوياً، وتتوقع جامعة الدول العربية أن تقع دولها كافة تحت خط الفقر المائي بحلول عام 2025!
والمغرب باعتباره أحد هذه الدول يتوفر على كميات محدودة من الموارد المائية، فتركيبة الموارد المائية بالمغرب ناتجة عن عدة عوامل مرتبطة بالموقع الجغرافي بالشمال الغربي للقارة الإفريقية مُحاط بالمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط مع وجود تضاريس جبال الأطلس والريف ووجود تكوينات جيولوجية سطحية وعميقة مع التركيز على نقطة أساسية وذات بعد جيوستراتيجي ألا وهي كون جميع منابع الأنهار المغربية توجد داخل التراب الوطني وهو معطى جد حيوي ومهم مكن المغرب من استقلالية تامة في تدبير موارده المائية بالرغم من محدوديتها، واحتياطي المغرب من المياه المتوفرة يبلغ 29 مليار متر مكعب منها فقط 20 مليار متر مكعب قابلة للتعبئة في ظروف تقنية واقتصادية مقبولة موزعة بين 16 مليار متر مكعب من المياه السطحية و 4 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية، والسياسة المائية بالمغرب ليست وليدة اليوم فهي تعود إلى مطلع القرن العشرين فابتداء من سنة 1920 تم بناء السدود الأولى التي كان الهدف منها توفير مياه الشرب والسقي وإنتاج الطاقة الكهربائية، وحتى سنة 1966 بقيت سياسة تعبئة المياه السطحية عن طريق السدود خجولة لأنه في ظرف 38 سنة لم يتم تشييد سوى 16 منشأة بطاقة تخزينية تصل إلى 2,2 مليار متر مكعب، ومع انطلاق هدف سقي المليون هكتار سنة 1967 واعتماد استراتيجية تروم تلبية الحاجيات الفلاحية من الماء للاستهلاك الغذائي الداخلي وإنعاش الصادرات الفلاحية ارتفعت وثيرة تشييد السدود وأُعطيت أولوية وأهمية خاصة لتعبــأة الموارد المائية بالمناطق الجافة وشبه الجافة من أجل ضمان تطورها السوسيو اقتصادي ومكنت هذه السياسة الرصينة والحكيمة في ظرف ربع قرن من توفر المغرب على منشآت هيدروليكية تعتبر حاليا مثالا يُقتدى به على مستوى القارة الإفريقية والعالم مكونة من أكثر من 128 سد كبير بطاقة تخزينية تصل إلى 17،2 مليار متر مكعب، وقد أبانت سياسة السدود التي انتهجها المغرب منذ أواسط ستينيات القرن الماضي مدى حكمتها وسدادها وبعد رؤيتها، وقد جنبت هذه الرؤية الثاقبة المغرب الكثير من المشاكل والقلاقل خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار الدور الحيوي والمهم الذي لعبته في التخفيف من وطأة فترات الجفاف المتلاحقة والحد من آثارها السلبية على مجموع الاقتصاد الوطني خلال سنوات ( 1980-1985، 1991-1995، 1998-2002).
أما في الميدان الفلاحي فتقدر المساحة المروية بالمغرب ب 1,35 مليون هكتار، وبالرغم من أنها لا تمثل سوى 10 % من المساحة الصالحة للزراعة فإنها تساهم بتشغيل 33 % من اليد العاملة و 75 % من صادرات المنتوجات الزراعية، إن أكثر من 80 % من الموارد المائية المتاحة في المغرب يتم استغلالها بشكل عام في قطاع الزراعة المروية حيث يغطي نظام الري السطحي أو الجاذبي 80 % من المساحة المروية، والري السطحي كما هو مستعمل حاليا يقوم بهدر وضياع كبير لمياه الري خصوصا على مستوى الحقل حيث تصل كفاءة نظام الري في قنوات الري الخرسانية النصف دائرية المحمولة إلى 90 % و في قنوات التوزيع الترابية (الرباعي) إلى 85 % وعلى مستوى الحقل إلى 60 % وبالتالي فالكفاءة الإجمالية للري الجاذبي تصل إلى 45% ، من هنا يمكن الاستنتاج أن أهم ضياع في مياه الري يحصل على مستوى الحقل وأن أهم اقتصاد في مياه الري يمكن إنجازه على هذا المستوى، ونظرا لمحدودية الموارد المائية من جهة وبغية عقلنة استعمالها من جهة أخرى فإن تخفيض فواقد الماء بالإضافة إلى تحسين استغلال شبكات النقل والتوزيع وترشيد استخدام المياه عن طريق تطوير نظام الري السطحي على مستوى الحقل يشكلان هدفا أوليا لتحسين كفاءة الري الحالية، أما فيما يخص تغطية الحاجيات من الماء الصالح للشرب فإنها تصل إلى 767 مليون متر مكعب أي بتلبية حاجيات 96 % من الساكنة بالمجال الحضري أما في المجال القروي فقد وصلت التغطية  إلى 91% أواخر سنة 2011، ويبقى التطهير السائل وحماية الموارد الطبيعية من التلوث أهم الأوراش الكبرى المفتوحة التي لازالت تنتظر البدل المزيد من الجهود وإظهار كفاءة عالية وقدرا كبيرا من المسؤولية البيئية والصحية ببلادنا.
لا شك أن زمان الوفرة قد ولى إلى غير رجعة وأن الماء أصبح يعرف تطورا معاكسا للنمو الديموغرافي إضافة إلى أن التساقطات المطرية التي أصبح يطغى عليها عدم الانتظام في المكان والزمان و أضحى تناوب فترات الجفاف وندرة المياه معطى هيكليا ببلادنا بحيث أن الحصة المائية الفردية عرفت انخفاضا كبيرا من 2.560 متر مكعب للفرد سنة 1960 إلى أقل من 900 متر مكعب سنة 2006 ويتوقع أن تنخفض هذه الحصة إلى 500 متر مكعب في أفق 2020، إن ضمان الحد الأدنى من المياه في المستقبل القريب يتطلب اتخاذ عدة تدابير أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي:
- الرفع من وثيرة تشييد السدود
- تحويل المياه من الجهات التي لديها فائض نحو تلك التي لديها نقص وفق نظرة شمولية وتضامنية بين جميع جهات المغرب،
- حماية موارد المياه الجوفية منها والسطحية من التلوث وتفعيل قانون الماء رقم 95-10،
-الحد من الهدر المائي بجميع أشكاله وتجلياته سواء في الميدان الزراعي أو الصناعي أو السياحي خاصة في الزراعات ذات العائد الاقتصادي الضعيف وفي ملا عب الغولف التي قد يصل استهلاكها في المتوسط إلى 2 مليون متر مكعب في السنة.
- اتخاذ التدابير المتمثلة في ترشيد واقتصاد الماء خصوصا في الميدان الفلاحي باتباع أحدث نظم الري مثل الري بالتنقيط والري تحت السطحي والري الموضعي والري الجاذبي المحسن مما سيمكن من اقتصاد ما بين 25 حتى 50 % من المياه المستعملة في الميدان الزراعي،
- التقليل من زراعة المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه دون عائد اقتصادي يُذكر وليس لها قيمة غذائية هامة وتوجيه العناية إلى الحبوب والأعلاف الشتوية على اعتبار أنها محاصيل غذائية استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها إضافة إلى احتياجاتها المائية القليلة،
- الاهتمام بالبحث الزراعي وإجراء دراسات للتوصل إلى محاصيل تنمو وتغل بسرعة ولها قدرة كبيرة على مقاومة الجفاف والآفات الزراعية،
- التوسع في معالجة مياه الصرف الصحي والإسراع في تنفيذ مشاريع المعالجة واستخدام هذه المياه في ري الأعلاف والمشاتل والحدائق والمساحات الخضراء وملا عب الغولف بعد التأكد من سلامة استعمالها،
-اللجوء إلى البدائل الغير تقليدية كتحلية ومعالجة المياه المالحة،
- صيانة المنشآت المائية التي تطلبت استثمارات مالية ضخمة واعتبارها رصيدا وطنيا حيويا ينبغي المحافظة عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق