من الحكم الخالدة خلود الدهر للإمام علي كرم الله وجهه في كتاب نهج البلاغة حكمتان بليغتان، أولها: "الغِنَى في الغُربةِ وطنٌ والفقرُ في الوطنِ غُربةٌ"، وثانيها: " ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك"، والفقر هنا لا يجب اختزاله فقط في الجانب المادي المتمثل في توفير الشغل والعيش الكريم والسكن والتعليم والتطبيب وغير ذلك، بل يتعداه إلى الجانب المعنوي المتمثل في الكرامة الإنسانية والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وتكافؤ الفرص، والعدل بحيث يصبح الناس سواسية أمام القانون كأسنان المشط، والعدالة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، والاعتراف بالجميل لكل من عمل بصدق وإخلاص وساهم في عزة ورفعة الوطن.
غير أنه تنتاب المرء حالة من الإحباط العميق عندما يشعر ويلمس عن كثب بأنه أصبح غريبا في وطنه، أو كما يسمي ذلك أشقاؤنا الجزائريون بصيغة بلاغية جد معبرة "محكَور"، أمام ما يرفش فيه من نعيم وامتيازات لا تعد ولا تحصى قلة من اليهود والنصارى، وطبقة متغربة موالية لهم من رواد الصالونات المخملية، عند ذاك ستكون النتيجة حتما عبارة عن نزوح للانتحار الجماعي في مياه الأبيض والأطلسي لأبناء الضفة الجنوبية لهذا البحر، الذي عبره فيما مضى عبور الأبطال الفاتحين القائد التاريخي طارق بن زياد في زمن وظروف أخرى، ثم أحرق السفن التي أقلت الجند حتى لا يولوا أدبارهم أمام الزحف النصراني.
غير أن هذه 'الحكَرة' لم تثن المغلوبين عن أمرهم الباقين بأرض الوطن من التشبث بالأرض والقيم الحضارية للأمة، بالرغم من فقدانهم الثقة في الأحزاب و الساسة والسياسيين أجمعين، حيث لم تعد تجدي نفعا الخطابات الحزبية المنمقة الجوفاء، البعيدة كل البعد عن واقع المجتمع وهمومه وتطلعاته المشروعة في بناء وطن يسع ويحضن كل أبنائه ويحفظ كرامتهم.
لقد سبق لي أن كتبت على هذا المنبر بأن ثلاثة أشياء أساسية في المجتمع وهي السلاح والخبز والثقة، فإذا أردنا الاستغناء عن واحد منها رمينا السلاح، وإذا أردنا الاحتفاظ بواحد منها فقط كانت الثقة، لأن الناس عاشت بدون خبز إلى حين، ولكنها لم تعش قط بدون ثقة، والثقة ليست شيئا سهل المنال، بل تتطلب بدل الكثير من الجهد والتدريب المتواصل والعمل والعرق والتضحيات الجسام، للوصول إلى مستوى المصداقية التامة في القول المقرون بالفعل، وليس القول المقرون بالسراب، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق