مراكش بين عهدين

إلى ماض غير بعيد كانت مدينة مراكش وردة الجنوب بالفعل، في ذلك الوقت لم تكن بناياتها متطاولة وكان علو جدرانها لا يتجاوز تواضع أهلها وتعففهم، وكانت حدائق المنارة وأكَدال وغابة الشباب وساحة باب الجديد وساحة باب الرُب تشكل أهم الفضاءات التي يرتادها سكان المدينة أيام الجمعة بعد الصلاة الجماعية قصد التنزه والترويح عن النفس، وكان مقهى المصرف الدائع الصيت آنذاك والموجود على بعد بضع خطوات من الضريح المتواضع والمتهالك لأمير المسلمين المجاهد يوسف بن تاشقين يُضفي على المشهد أجواء مميزة ومتناغمة مع الزمان والمكان يمكن اختزالها في مقولة المرحوم الفنان الحسين السلاوي 'مَحْلَى النْزَاهَة مْعَ النّاسْ لُقْدَامْ'، وكانت مدينة مراكش وردة ترقد على سفوح جبال الأطلس الشامخة بين أحضان حزام أخضر متناسق من النخيل يُسقى بواسطة الخطارات، وهو نظام لجلب المياه الجوفية بطريقة مبتكرة وطبيعية استعملها المرابطون ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، بحيث تم تحويل أراضيها القاحلة إلى حواضر وحدائق غناء يضرب بها المثل في شمال أفريقيا.
ولقد أحصى أستاذ وفقيه علم الاجتماع القروي المغربي الراحل 'بول باسكون' سنة 1972 في أطروحته لنيل الدكتورة حول حوز مراكش ما يفوق 567 خطارة (فلج) بطول إجمالي يصل إلى 700 كلم، كانت تعطي صبيبا مائيا باردا رقراقا يصل إلى 5.059 لتر/ثانية، مكن من سقي 20.520 هكتار، أي ما يعادل 15% من المساحة الإجمالية المسقية بالحوز آنذاك (134.879 هكتار)، بل كانت مياه هذه الخطارات مثل خطارة العباسية وخطارة الجنان الكبير وخطارة أكَدال وخطارة الحَارَة التي يا ما استحممنا بمياهها في عز أيام الصيف القائضة في طفولتنا تصل حتى داخل مدينة مراكش لتسقي الحدائق والعراصي وأشجار النخيل المحيطة بالمدينة وتنشر الحياة وتروي ظمأ ساكنة الحضر.
أما اليوم فمعظم هذا الإرث الحضاري الذي يعود إلى ما يفوق تسعة قرون اندثر والقليل الباقي منه بنواحي المدينة لا زال يصارع الإهمال وفعل الزمن وفترات الجفاف المتتالية، و فقدت مدينة مراكش جمالها الطبيعي وعفويتها وعوضتهما بجمال مصطنع، حيث لم يعد هنالك مجال آخر غير البيع والشراء، فتكاثرت العمارات من خمس طوابق كالفطر في كل مكان حتى ضاقت بها مراكش بما رَحُبت، ولم يبق في الساحة إلا المضاربين العقاريين والسماسرة، وأضحت 'شكارة' المراكشي المشهورة بكبرها وطول مجدولها غير قادرة على استيعاب بورصة الأسواق وأرقامها، فانسحب في صمت معبر، ولم تعد تراه إلا منزويا ومختليا في أماكن نائية عن البهرجة والتصنع عملا بقول الرسول الكريم:"الوحدة خير من جليس السوء".
و أصبحت الشقق تباع ب
3.000 درهم للمتر مربع (بدون نْوَارْ بالطبع) للمستضعفين المغلوبين الراغبين في شراء علب من 50 متر مربع يُحشرون فيها حشرا كالسردين، يضيق بها الصدر، تغلي صيفا كالمقلاة وتتجمد شتاء كالثلاجة، وتقتضي ظروف الإقامة بها لضيق مساحتها تنظيم الصفوف دخولا وخروجا والانتباه الدائم ليلا ونهارا لتجنب حوادث السير، أما من يبحث عن قليل من التحسين في ظروف السكن فيلزمه دفع 12.000 درهم للمتر مربع على الأقل، وأصبح الهكتار الفلاحي الذي كان إلى غاية سنة 1997 لا يتعدى ثمنه 20.000 درهم يتأرجح ثمنه حسب الموقع والبعد أو القرب من مراكش ما بين 600.000 و 5.000.000 درهم، وأصبحت مراكش من أغلى المدن المغربية من حيث العقار.
ولم يعد أمام المستضعف ممن لا سكن له، وسط هذه السوق المعولمة المليئة بأولاد الحرام من المضاربين الجشعين وآكلي السحت في مجالات العقار، الذين ليس لديهم من مهمة في هذه الحياة سوى تجميع المزيد من الفلوس إلى ما لا نهاية في انعدام تام للحس الإنساني و الأخلاقي، إلا حلين إما الاستسلام والرضوخ للشروط المفروضة المملاة من طرف الأبناك الربوية الخسيسة للاستفادة من سلف يؤديه أقساطا طول حياته وكأنه لم يخلق إلا لهذه الغاية، أو الإنسحاب على هامش الطريق السيار طلبا للسلامة حتى 'لا يجيبها فراسو'، وأصبحت الحياة مثل بيداء مقفرة لا هادي للمرء فيها إلا إرادته ليتحمل تبعات ما لم تجن يداه.
و في الجانب الآخر من المشهد المراكشي بدأت المعالم التاريخية المنيرة لهذه المدينة، المغلوب أهلها عن أمرهم، تخبو تحت وطأة الزمن، فأسوارها التاريخية أصبحت متصدعة ومتآكلة الأسس في عدة أماكن، وآيلة للسقوط في أماكن أخرى، ومعالم توشك أن تختفي إلى الأبد بعد القرار الذي اتخذ بشأن هدمها كثانوية ابن يوسف للتعليم الأصيل التي يعلو بابها الكبير عبارة محرم عام 1359، و هي معلمة عالمية وتاريخية تشكل في حد ذاتها ذاكرة للشعب، ارتبط اسمها بمدينة مراكش لفترة زمنية ومرحلة هامة من تاريخ المغرب المعاصر، تخرج منها أجيال من المثقفين والأساتذة من جميع مناطق المغرب، بل حتى من دول افريقية تربطنا بها أواصر الدين واللغة، في شهادة حية على أن الأصالة والقيم والأخلاق في أيامنا هذه أصبحت مثل البضائع تُباع وتُشترى، وتحت الشعارات تُغتال الحقائق، فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة كما يقول الدكتور خالص جلبي في كتاب كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد.