السعادة الوهمية

قصة البشرية منذ الأزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هي قصة البحث عن طـريـق السعادة والأمن والاستقرار، لذا اختزل الكثير من الناس الطريق نحو هذه السعادة في وفرة المال أو صحة البدن أو السطوة والجاه أو كثرة الولد أو بلوغ أعلى درجات العلم المادي، بينما السعادة في المنظور الإسلامي ترتكز على الإيمان الراسخ بالله عز وجل، وبالقدر خيره وشرّه، وباليقين التام بأن كل نعيم في هذه الحيـاة زائل لا محالة، وأن السعادة الأبدية في الآخرة.
وتتعاظم هذه السعادة كلما ردم المسلم من الفجوة القائمة بين معتقداته وسلوكياته، حيث يرضى المسلم عن أدائه، ويستشرف عاقبة المتقين، وبدون هذا الإيمان ستبدو لنا الحياة ملأى بالملل والضنك والشقاء، ولا سعادة دنيوية مطلقا بدون رضا لقضاء الله وسكينة نفس وقناعة وورع واجتناب محرمات وشكر لأنعم الله.
فالسعادة كما قال الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله : " حسبك من السعادة في الدنيا : ضمير نقي .. ونفس هادئة .. وقلب شريف ".
ولمن غرتهم الأماني واتخذوا كل وافد من الغرب نبراسا لهم وقدوة دون تمحص واستجلاءٍ للغث من السمين أن يتأملوا ويتدبروا في سبب وجود مفارقة عجيبة بين ما أحرزه هذا الغرب في مضمار الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة، وبين ما أحرزه من تقدم على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامـة - حيث إن التقدم التراكمي المطرد على الصعيد الأول، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة والارتباك والتيه، واتساع الخروق وتقطع أوصال المجتمعات على الصعيد الثاني.
ولنتأمل جيدا ما قاله العالم النفسي والفيلسوف الأمريكي إيريك فروم في مؤلفه الإنسان بين الجوهر والمظهر عن أزمة الحضارة الحديثة التي تدفع بالعالم نحو حافة الهاوية من الناحية النفسية: "تُثبت المعلومات التي تقع تحت ملاحظتنا بوضوح تام، أن طريقتنا في الجري وراء السعادة لا تُثمر حياة طيبة، فنحن مجتمع مــن الناس التعساء على نحو مزر، نعاني من الوحدة والقلق والاكتئاب والاتكالية والنـزوع التدميري، ويشعر الناس فيه بالسرور حين يبددون الوقت الذي يبذلون جهودا مضنية لتوفيره"، تأملوا معي هذه الفقرة جيدا "يشعر الناس بالسرور حين يبددون الوقت الذي يبدلون جهودا مضنية لتوفيره"، إنه منتهى العبثية والتبخيس الرخيص للحياة.
وهذا الجري المتسارع والمتنامي باطراد وراء وهم السعادة بكل السبل والوسائل ليس في الحقيقة إلا جريا وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء يصدق عليه قول الشاعر جبران خليل جبران:
وَمَا السَّعَادَةُ  فِي الدُّنْيَا  سِوَى  شَبَحٍ       يُرْجَى  فَإِنْ صَارَ  جِسْماً  مَلَّهُ الْبَشَرُ
كَالنَّهْرِ يَرْكُضُ نَحْوَ السَّهْلِ مُكْتَدِحاً      حَتَّى    إِذَا   جَاءَهُ    يُبْطِي   وَيَعْتَكِرُ