الفرنكفونية ليست قدرا

بعد مرور 63 سنة على استقلال بلدنا، لا زالت الحياة في معظم المرافق العامة والخاصة مطبوعة بلغة الـمُسْتَخْرِبِ وليس الـمُسْتَعْمِرِ كما هو رائج بين الكثير من الناس، ويتضح ذلك بجلاء في التعليم العالي والخدمات الإدارية وتسمية الشوارع وعناوين المحلات والمصانع والشركات، بل حتى في المراسلات وما إلى إلى ذلك، وهذا لا ينفي بالطبع وجود إرادة لدى الحكومات المتعاقبة تجلت بالأخص في المنشورات التي أصدرها الوزراء الأولون ابتداء من المنشور رقم 69 بتاريخ 18 فبراير 1972 الذي يحث على ضرورة مراسلة المواطنين باللغة العربية، إلى آخر منشور أصدره الوزير الأول في حكومة التناوب التوافقي الذي يحمل رقم 53.89 بتاريخ 11 دجنبر 1998 القاضي باستعمال اللغة العربية بالإدارة العمومية، لكن هذه المنشورات بقيت حبرا على ورق ولم تغير من الواقع الـمُفَرْنَسِ شيئا.
إن حمل بعض المنبهرين بالعقل الغربي ومنجزاته المادية على احتقار اللغة العربية وقلة الاهتمام بها باستخدام لغات أجنبية في كلامهم وخاصة في عباراتهم اليومية، بدعوى أن العربية باتت عاجزة لا يمكن لها أن تتواءم ومتطلبات عصر التقدم والتكنولوجيا، ولا أن تَفِ باحتياجاته المختلفة هي أحكام مغرضة مجافية للحقيقة والصواب، لأنها هي اللغة نفسها التي عبرت عن الثورة الفكرية العربية في مجالات الرياضيات وعلوم الفلك والطب والفلسفة وتم نقلها إلى الثقافات الغربية عبر قنوات كثيرة، أبرزها الوجود العربي في الأندلس، لتسهم في تحقيق النهضة الأوروبية.
وإن التعامل البخس مع العربية واستفحال عقدة النقص لدى البعض من التحدث بها، وذلك بالتواري وراء ألسنة أخري بمزج لغوي ركيك من العربية والأجنبية مثير للتهكم والسخرية، وهذا احتقار للغة القرآن وتنكر لقيم ديننا وحضارته العربية الإسلامية وتنكر للشهداء الذين ضحوا بالغال والنفيس في سبيل تحرير الوطن من قبضة الاستعمار، وتعامل مرَضي ينم ضعف في الشخصية وضياع للهوية يصدق عليه قول الشاعر حافظ إبراهيم :
أَيَهْجُرُنيِ  قَوْمِي  عَفَا   الَلّهُ   عَنْهُمْ         إِلىَ    لُغَةٍ     لَمْ    تَتَّصِلْ    بِرُوَاةِ
سَرَتْ لَوْثَةُ الإِفْرَنْجِ فِيهَا كَمَا سَرَى         لُعَابُ  الأَفَاعِي  فِي  مَسِيلِ  فُرَاتِ
فَجَاءَتْ  كَثَوْبٍ  ضَمَّ سَبْعِينَ رُقْعَةٍ         مُشَكَّلَةَ       الأَلْوَانِ     مُخْتَلِفَاتِ
و اللغة العربية ليست خاصة بأهلها فقط بل إن تعلمها هو مطلب شرعي لجميع الشعوب الإسلامية التي يناهز سكانها ربع سكان المعمور، لأن صلاة المسلم غير جائزة بإجماع المذاهب والطوائف والفرق كلها إلا بتلاوة الفاتحة وبعض الآيات من القرآن الكريم بلغته التي أُنزل بها "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" يوسف 2 .
إنها لغة لدولة إسلامية عظيمة في عصر مضى سيطرت على رقعة كبيرة من العالم، ولغة حضارة لأنها الوعاء الذي احتوى تراث المسلمين العلمي وحضارتهم الراقية، والتي ترجمت مؤلفاتها فيما بعد لتستفيد منها الحضارة الأوروبية في القرون الوسطى وتبني صرحها باعتراف علمائها وأدبائها وفلاسفتها.
إن اللغة هي مستودع الفكر وعنوان الحضارة لدى كل أمة، وهي بمثابة سجل حافل تدون فيه الأمة أحاسيسها الدينية ومآثرها التاريخية ومنجزاتها العلمية، واللغة العربية لها خصائص فريدة تجعل منها لغة غنية تستطيع أن تساير التطور الحضاري والفكري بدليل أنها استطاعت في العهود الإسلامية المختلفة أن تستوعب الفكر الدخيل والعلم الدخيل وأن تعبر عنهما بلغة وافية وصافية.