القروي والشيطان

"وَقُلْ لِلَّذِينَ يُحَاوِلُونَ تَدْمِيرَنَا أَنَّ جَمَالَ أَرْوَاحِنَا لَنْ يُهْزَمَ" ليو تولستوي
نشأ الروائي والفيلسوف الروسي الكبير ليو تولتسوي، أحد عمالقة الأدب العالمي، يتيما عندما فقد والديه وهو لم يتجاوز  بعد سن التاسعة، انقطع في بداية شبابه لفترة وجيزة للسعي وراء الملذات ومباهج الحياة، ثم حين استفاق من غفلته عاش حياة متقلبة بين الإيمان والشك وهو ما يظهر في البعض من مؤلفاته كرواية 'أنا كارنينا' التي ترسم صورا حية للصراع الباطن في النفس البشرية، و'اعترافات' التي توضح اعتناقه لمبدإ المقاومة السلبية للشر، وقد تجلت هذه المقاومة فيما بعد في الكثير من مؤلفاته مثل 'موت إيفان إيليتش' ومسرحية 'قوة الظلام'  ومسرحية 'كرويستر سوناتا'، و'الجثة الحية' وغيرها، وتعتبر رواية 'الحرب والسلام' قمة إبداعه، وهي عبارة عن ملحمة نثرية تدور حول حروب نابليون بونابرت، التي تظهر بوضوح فلسفة تولتسوي في التاريخ والتي تنتقص من شأن الدور الذي يلعبه فيه الفرد.
كان إصراره في تطبيق مبادئه التي آمن بها في حياته بعد إيمانه والمتمثلة في المبادئ الخلقية والاجتماعية السامية والزهد و كره كل أنواع البذخ والترفع والاستعلاء والتخلي عن جميع ممتلكاته مع الاكتفاء بالقليل القليل، سببا في نبذه من طرف زوجته وأولاده 'واللي ما عندو فلوس كلامو مسوس'، فيما عدا إبنته الصغرى ألكسندرا الوحيدة التي بقيت بجانبه حتى وفاته على محطة للسكة الحديدية، لما سافر السفرة الكبرى تاركا وراءه تراثا عالميا ضخما لا يساوم بثمن متمثلا في مؤلفاته الثرية الرائعة ولا قرشا واحدا !!
ويسرني أن أقدم إحدى القصص القصيرة لهذا الأديب العملاق تلقي الضوء على جانب من المبادئ السامية التي آمن بها وكد طوال حياته لنشرها ألا وهي قصة 'مكيدة شيطانية':
في صبيحة يوم من الأيام خرج قروي من كوخه المتواضع يحمل تحت إبطه فطور يومه موليا وجهته نحو حقله، والذي ما إن وصل إليه حتى خلع معطفه ورمى به تحت إحدى الشجيرات بعدما لف فيه كسرة من الخبز، بعد ذلك شرع في العمل، وبعدما أنهكه الجوع وأضنى التعب حصانه، أطلق سراحه وجلس هو ليأكل ما أعده للفطور، فلما تفقد الخبز لم يجده بين طيات ثيابه، فأخذ يقلب المعطف بين يديه ويدقق النظر في كل جزئياته، ولكنه عبثا كان يحاول لأن الشيطان كان قد سبقه إلى الشجيرة وسرق ما في المعطف من الطعام، ثم جلس منتظرا صخب القروي ولعناته على سارق الخبز، إلا أن ظن الشيطان خاب لكون القروي على الرغم مما حل به من الأسف لم يتأثر لفقد الطعام كثيرا وقال مع نفسه: "ما علي لو صبرت فإن الجوع ليس بقاتلي، وربما كان الآخذ في حاجة إلى ذلك الخبز فليهنأ به"، قال قولته وتوجه توا إلى بئر قريب منه وأطفأ ظمأه وارتاح قليلا من عناء العمل ثم عاد وأمسك بعنان حصانه واستأنف العمل من جديد.
أما الشيطان فقد استاء من تصرف القروي، إذ رآه أعقل من أن يقع في الخطيئة فقرر أن يخبر رئيسه بالأمر، وبالفعل ذهب من وقته إلى إبليس وقص عليه الحكاية وكيف أن القروي لم يعبأ بفقد الخبز ولم يسخط على سارقه بل تمنى له الهناء والسرور، فما كاد إبليس يسمع ذلك حتى غلى مرجل حقده وانتهر تلميذه الشيطان قائلا: " إنما اللوم في ذلك راجع عليك لأنك لم تقم بهمتك كما يجب واعلم أن القرويين إذا بدؤوا ينهجون على هذا المنوال واقتفى أثرهم في ذلك زوجاتهم فالويل لنا نحن معشر الأبالسة، فالأمر خطير لا يحق لنا أن نتغافل عنه، انكص على عقبيك سريعا واصلح خطأك هذا، وإن لم تنتصر على ذلك القروي الساذج في ظرف ثلاث سنين فسوف أريك كيف يكون جزاء الإهمال، فعاد الشيطان إلى الأرض مسرعا وهو ينتفض فرقا وقد تقطعت نياط قلبه من تهديد الرئيس، وأخذ من وقته يفكر في حيلة يوقع بها ذلك القروي المسكين في حبائله، وأخيرا اهتدى إلى حل وجده كفيلا بنجاحه فاستخفى  بزي أحد العمال وتمكن من أن يدخل في خدمة القروي.
وفي عامه الأول نصحه بأن يبذر حبوبه في أرض رطبة فعمل القروي بنصيحته، وكان الجو من حسن حظه جافا فأنتجت الأرض محصولا وفيرا، مكن الفلاح من ملئ مخازنه، وأصبح لديه كميات وافرة من القمح تزيد عن حاجاته، وفي عامه الثاني عاد الشيطان إلى القروي ينصحه بأن يبذر حبوبه على ربوة من الأرض، فجاء وقت الحصاد وكان الصيف رطبا فاستفاد القروي من النصيحة وتوفر لديه الكثير من القمح يربو عما جناه في العام الأول، فحار في أمره ولم يدر ما يصنع بكل ذلك القمح الكثير، فوسوس إليه الشيطان أن يستخرج منه نوعا من الخمر ففعل، وكان الخمر المستخرج قويا شديد التأثير، فسر القروي بهذا الاكتشاف وأخذ يشرب منه هو وزوجته، وأهدى إلى أصدقاءه الشيء الكثير، عند ذلك ذهب الشيطان إلى رئيسه فرحا مستبشرا وقص عليه ما فعله لإغواء القروي، فقام إبليس مسرعا ليشاهد الأمر بنفسه ويتحقق صدق مقاله، فلما وصلا إلى منزل القروي وجدا أن صاحب المنزل يستعد لحفلة ساهرة دعا فيها كل جيرانه الأعزاء، ثم رأيا وفود المدعوين تتقاطر على المنزل جماعات وأفراد، وصاحبة الدار قائمة بخدمتهم تدور عليهم بالأواني، وإذا بها قد تعثرت فوقعت الأواني من يدها وسال الخمر على الأرض، فاحتدم زوجها القروي غضبا وصاح بها يقول: "ما الذي دهاك أيتها العسراء حتى أرقت  هذه الخمرة اللذيذة على بساط الغرفة، أظننت أن ما بين يديك من ماء البئر حتى أخذت في إتلافه وإسرافه"، وما كاد الشيطان يسمع هذه الكلمات حتى غمز رئيسه إبليس قائلا: "أسامع أنت كلام القروي الساذج  الذي لم يهتم لفقد كسرة خبز؟"، وبينما كان القروي ينتهر امرأته ويلومها على فعلتها إذا بقروي فقير دخل عليهم متطفلا واستوى جالسا على المائدة ينتظر إكرام صاحب الدار، ولما طال به الجلوس تململ صاحب المنزل من جلوسه وتمتم يقول: "أنا ليس بوسعي أن أقدم شرابا لكل من يتطفل على موائدنا"، فسمع إبليس هذه الكلمات وسر في نفسه بهذه النتيجة، إلا أن تلميذه الشيطان قال وهو يبتسم:"انتظر قليلا فلسوف ترى ما هو أعجب"، وفعلا فما كاد يتم قوله حتى كان القوم قد أخذتهم نشوة الخمر، فأصبحوا يخادعون بعضهم البعض بألفاظ ملؤها التملق والرياء، وعند ذلك قال إبليس: "إذا كان بعض الخمر يجعلهم على هذه الحال يروغون كالثعالب ويتملقون بعضهم البعض، فإنك سوف تراهم عقب الكأس الثانية كالذئاب المفترسة ينهشون لحوم بعضهم البعض"، فما أتم الشيطان كلماته حتى كان الشراب يدور على القوم ثانية، ثم ارتفعت من بينهم دواعي الحشمة والوقار وأصبحوا يتبادلون فحش الكلام والألفاظ، ثم وصل بهم الأمر إلى الضرب فالملاكمة، فتلألأ وجه إبليس بشرا وهنأ تلميذه بذلك الفوز الباهر قائلا: "هذه الخطوة الأولى في سبيل النصر"، فأجابه تلميذه: "انتظر حتى النهاية ترى ما هو أغرب، فإنهم الآن كالذئاب يكاد أحدهم يفترس رفيقه، ولكنك سوف تراهم كالخنازير عقب الكأس الثالثة".
عندما دارت الكؤوس عليهم مرة ثالثة، علت أصواتهم وزاد صخبهم وأصبح كل منهم يلعن ويشتم بلا سبب ومن غير داع، وبعد برهة وجيزة انفرط عقد جمعهم وأخذوا ينسلون من مكان الدعوة جماعات ووحدانا، يترنحون سكرا ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، فذهب المضيف في أثرهم ليودعهم، ولكنه ما كاد يخطو بضع خطوات حتى تعثر في مشيته فوقع في حفرة مملوءة بالأوحال وتلطخ بها من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، فازداد إبليس لهذا المنظر بهجة وسرورا والتفت إلى تلميذه يقول:" لله درك فلقد كان نجاحك باهرا وفوزك مبينا ولكن خبرني كيف صنعت هذا الشراب، فلا ريب أنك أضفت إليه بضع قطرات من دم الثعالب وهذا ما حدا بهم لأن يراوغوا ويتملقوا لبعضهم البعض، ثم أظن أنك أضفت إليه بعضا من دم الذئاب إذ كانت نتيجة ذلك أنهم أصبحوا كالذئاب العاوية، وأخالك أتممت العمل بوضع قطرات من دم الخنزير حتى أصبحوا يماثلون الخنازير عقب الكأس الثالثة"، قال الشيطان: "كلا فإنك لم تصب كبد الحقيقة فليست هذه هي الطريقة، وكل ما في الأمر أني بذلت ما في وسعي لأن أجعل ذلك القروي يملك حبوبا أكثر مما يحتاج إليه، فالإنسان بطبعه تجول في عروقه دماء الحيوانية على الدوام، وتظل هذه الغريزة كامنة في نفسه طالما كان يملك من حطام الدنيا أقل من ضرورياته، يدلك على ذلك ما أظهره القروي عندما تحرشت به في بادئ الأمر، ولكنه ما كاد يتوفر لديه أكثر مما يحتاج إليه حتى أعماه الغنى وتمادى به الغرور، فأخذ يبحث عن دواعي الملاهي والسرور، وهنا سنحت الفرصة لإغوائه فأخذت بيده إلى طريقة من طرق الغواية، إذ أرشدته إلى صنع الخمر، فاستلذها المسكين لسوء حظه وشربها عذبة سائغة، فكان ذلك كالساعي إلى حتفه بظلفه، فإنه ما كاد يكفر بأنعم الله حين أعطيته خمرة تذهب برشده حتى ظهر ما كمن في نفسه من تلك الدماء الخبيثة، دماء الحيوانية، فأصبح وحشا ضاريا بعد أن كان بشرا سويا، وهو يظل كذلك وحشا مفترسا بعيدا عن مناهج الإنسانية طالما بقي يعاقر تلك المادة الدنسة.