عندما يصبح السفلة رؤوسا

عندما يعتلي أدنياء النفوس وحقراء الشخصيات رقاب المستضعفين من الناس حينذاك يتحالف الاستبداد والطغيان والفساد كي يحطموا ويهينوا كل شريف ذي كرامة، وهذه النماذج من البشر قد تنحدر أحيانا حتى من أوساط اجتماعية فقيرة وجاهلة، لكنها ما إن تُعْطى مفاتيح السلطة من أسيادها بلا حدود وبدون كوابح حتى يُصبحوا الكل في الكل، هكذا كانت دائما الطبيعة البشرية على مر التاريخ، فإن أردت أن تعرف حقيقة إنسان ما فهبه سلطة أو مالا وسوف ترى العجب العجاب، وليس التاريخ المغربي وحده من عرف هذا الغثاء الخبيث وهذه الحثالة  البشرية الفاسدة،  بل كل  أمم وشعوب العالم عرفتها بصورة أو بأخرى  منذ أقدم العصور، ولا زال أحفادهم في كل صوب يتناسلون ويتكاثرون إلى يومنا هذا.
 ومن خلال هذا المقال سوف أسلط بعض الضوء على  أحمد البـيـاز أحد النماذج البشرية الديناصورية الغريبة والعجيبة التي عرفها التاريخ المغربي المعاصر، فقد كان هذا القزم  بمثابة اليد اليمنى التي يبطش بها وينهب بها في آن واحد سيده ومولاه الباشا التهامي الجلاوي الحاكم المستبد الموالي والمطيع والوفي للاستعمار الفرنسي بالمنطقة الجنوبية بالمغرب، ولعل جملة قصيرة لكنها مدوية، كان يتداولها المراكشيون خلسة وخفية خوفا من بطشه، تعبر أصدق تعبير عن مدى تسلط واستبداد وتجبر هذا الفرعون الصغير:" لو ضغطنا بأرجلنا على الأرض لانفجرت دماء طازجة"، إضافة لما كتبه عنه الكاتب الفرنسي جوستاف بابان سنة 1932 في كتاب 'المغرب بلا قناع: صاحب الفخامة': "إنه نظام يسمح وبكل جرأة لجميع الوقاحات، والسرقات والتزوير ابتداء من التتريك (الاستيلاء على جميع الممتلكات وما تحت اليد بالقوة دون أية محاكمة) حتى القتل،  إنه نظام الحقارة والإرهاب الذي اضطهد الجنوب  المغربي حتى أضحى عبارة عن مملكة جهنمية من العنف والاحتيال والغش والظلم."
لم يكن  أحمد البياز في بدايته شيئا مذكورا، حينما كان يشتغل وينطلق سواقا للحمير من ساحة جامع الفنا محملة بمقتنيات الناس حتى باب دورهم مقابل قرش واحد لكل حمار، لكن الحظ سوف يبتسم له ويحوله فجأة من سواق للحمير إلى سواق للبشر، وهذا هو حال الدنيا دائما 'تخلطات ولا بغات تصفى...وطلع خزها فوق ماها....رواس على غير مرتبة هم اسباب خلاها'، وما لبث أن اتصل بالباشا التهامي الجلاوي، فأصبح عونا صغيرا يدور في فلك حول شمس هذا الفرعون الصغير، يسبح بأمره ليل نهار ويأكل بفمه الثوم، فأعلى من شأنه الباشا وعينه  بمنصب عال ببلدية مراكش، فلما استتب له الأمر  بمدينة العلم والعلماء مراكش الحمراء رتع فيها فسادا وظلما واستبدادا تحت مظلة وحماية سيده الصدر الأعظم الباشا التهامي الجلاوي عميل الاستعمار الفرنسي.
يقول العالم العلامة المختار السوسي المؤرخ والأديب والمقاوم المغربي الغيور رحمه الله عن أحمد البياز:"إنني أستحيي أن أشمت بإنسان في حال مصابه، على أنه لو تصادفنا لا يرى مني إلا خيرا، فإن لفظه خاطري فما ذلك لشيء أتحققه في جانبي منه، فإنما هو آلة مأمورة، أو متطلع إلى ما لا يدركه أمثاله من المتبصصين إلا بالتجسس والإختلاق، وأنا أعذره من هذه الناحية، بل وأسامحه، إلا أنه مشنوء بما يلاقيه منه الضعفة والأيتام والثكالى الذين يصنع بهم ما يصنع وقد تحجر قلبه تحجرا غريبا، وقد كنت أعرف له قبل أن أتعرف به وجها لوجه سوأة لعلها تسود صفحة حياته ما حيى، إن لم يغفر له ربه، فإنه اتخذ دارا في الاستخفاء يسرب إليها الأبكار اللاتي يلتقطهن من الأزقة نحيفات من الجوع، فلا يزال بهن حتى يسمن فيجملهن ويقدمهن لرئيس البلدية 'كوجي'، وقد كان هذا اليهودي الشنيع مولعا بتلك اللذة، فيستمتع بكل واحدة منهن في ليلة، والبياز يجمع له من هنا وهناك وهو يبتذلهن، فكل من قضى وطره منها يرسلها إلى حال سبيلها، وهذا ديدنهما دائما علم بذلك من علمه وجهله من جهله، وكان البياز من لا غيرة إسلام تروج في قلبه، ولا علو همة تدور في رأسه، وأي مؤمن يعرف منه هذا ثم ينظر إليه بعين الرضى؟".