وجدت البروسترويكا الشيشانيين منقسمين إلى معسكرين: معسكر مؤيد للروس ومعسكر مؤيد للإستقلال، وفي سنة 1989، بينما كان اتحاد سكان الجبال يعيدون تنظيمهم، عينت موسكو لأول مرة الشيشاني الموالي لها دوكو زافكاييف في منصب السكرتير الأول للحزب الشيوعي المحلي، هذا الأخير سوف يختفي من الساحة أمام زعيم الحركة الانفصالية والجنرال في سلاح الجو جوهر دوداييف، الذي يعلن استقلال جمهورية الشيشان في نونبر 1991 عندما كانت جمهوريات الاتحاد السوفياتي في طريقها إلى الزوال ليحل محلها نظام شمولي، وبعد عدة محاولات انقلابية فاشلة لموسكو للإطاحة بالجنرال جوهر دوداييف مع دعم خصومه الألداء، اختار الرئيس بوريس يلتسين في 11 دسيمبر 1994 التدخل العسكري، متوقعا تحقيق انتصار باهر وسريع، لكن الحرب التي استمرت عامين ونصف، انتهت بهزيمة نكراء للروس رغم تفوقهم الساحق في العدة والعتاد بجميع المقاييس، مخلفة مقتل 4.000 عسكري روسي و 2.000 مقاتل شيشاني و 35.000 مدني شيشاني وحوالي 500.000 لاجئ، مع تدمير واسع النطاق لا سيما في العاصفة كروزني التي تعرضت لقصف وحشي أزال كل مظاهر المدنية والحياة فيها.
وتحت الضربات الموجعة للثوار الشيشان التي استخدموا فيها سلاح احتجاز الرهائن، مطالبين انسحابا فوريا للقوات الاتحادية الروسية، وقع الجنرال الروسي ليبيد ورئيس المقاومة الشيشانية أصلان مسخادوف اتفاقا لوقف إطلاق النار في 31 غشت 1996، ينص على تأجيل تحديد وضع الجمهورية الشيشانية لخمس سنوات مع موافقة موسكو على سحب قواتها والمساعدة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، لكن الواقع كان شيئا آخر، فلا موسكو ولا الثوار احترموا ما تم الاتفاق عليه، وبقيت الهزيمة النكراء للجيش الروسي أو الدب الروسي الضخم من طرف مجموعة قليلة من المقاتلين الأشاوس رغم الضعف البين في العدة والعتاد غاصة في حلق الروس، ينتظرون فقط أي فرصة سانحة للانتقام، وفي 27 يتاير 1997 تم انتخاب أصلان مسخادوف المرشح الانفصالي المعتدل رئيسا للجمهورية الشيشانية بعد مقتل الجنرال جوهر دوداييف في عملية تفجير في أبريل 1996، على رأس بلد دموي وفوضوي، يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية حادة، وانحرافات خطيرة للمافيا واهتياج أصولي شديد، لم يعد في استطاعة مسخادوف السيطرة على الوضع خاصة الرؤساء العسكريين الآخرين، مما أعطى لموسكو الفرصة السانحة التي طالما انتظرتها للانتقام.
ومع مطلع خريف 1999، شنت موسكو حملة عسكرية جديدة بدعوى الهجمات التي نفذها ثوار داخل روسيا وداخل جمهورية داغستان المجاورة، وفي الأول من أكتوبر من نفس السنة أعلن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين عدم اعتراف موسكو بشرعية الرئيس مسخادوف، فتقدمت آلة الحرب الروسية الحديدية وتوغلت داخل الأٍراضي الشيشانية مستولية على ثلث أراضيها خلال أسبوعين، مما أسفر عن مقتل الآلاف من المدنيين الشيشان ونزوح جماعي ل 250.000 شخص نحو الجمهوريات المجاورة، وبعد قصف جوي عنيف سقطت العاصمة غروزني في 1 فبراير2000.
بعد ذلك، انحسرت عمليات المقاومة الشيشانية في المناطق الجبلية، والهجمات المباغثة ضد الجيش الروسي، وعمليات احتجاز الرهائن حتى في قلب العاصمة موسكو، مما حدا بالقوات الفدرالية الروسية والمليشيات المحلية الحكومية الموالية لروسيا أن تحول جمهورية الشيشان إلى مسرح لعملية تطهير واسعة النطاق في صفوف السكان المدنيين، مع ما رافق ذلك من فظائع وحشية ضد المدنيين: نهب، اعتقال تعسفي، اغتصاب، تعذيب، إعدام بدون محاكمة ألخ..... ذهب ضحيتها 70.000 مدني.
وابتداء من ربيع 2003، أعلنت روسيا على تطبيع الوضع بالشيشان، مما أدى إلى إجراء استفتاء على اعتماد دستور جديد يضمن الحفاظ على جمهورية الشيشان داخل الاتحاد الروسي وانتخاب رئيس الإدارة الموالية لروسيا أحمد فيديروف رئيسا للجمهورية، انتخابات وصفها مسخادوف وعديد من الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان بالصورية، وفي 09 ماي 2004 تم اغتيال أحمد كاديروف في هجوم بالقنابل أعلن باسييف مسؤوليته عنه، وبعد خمس سنوات من المطاردة من قبل القوات الروسية أُعلن عن وفاة الزعيم الانفصالي المعتدل مسخادوف، مما اعتُبِر نقطة تحول في الصراع الشيشاني الروسي.
اختفاء مسخادوف أبعد أي نظرة لتسوية عن طريق التفاوض، وترك المجال مفتوحا لحركة التمرد الشيشانية الراديكالية، ولكن هذه الأخيرة أضحت أكثر ضعفا في 2006 بعد وفاة اثنين من قادتها : خليفة مسخادوف الشيخ عبدالحليم سادولييف الذي تمت تصفيته في 17 يونيو من قبل قوات الأمن الموالية لروسيا في الشيشان وجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وباسييف الذي قتل في أنغوشيا في 9 يوليوز من نفس السنة، وأصبح دوكو عمروف أحد أقرباء باسييف رئيسا جديدا للثوار الشيشان وهو الناجي الوحيد من أمراء الحرب.
بعد ذلك تابع الكرملين سياسة التطبيع حول الزعيم الجديد للجمهورية رمضان قديروف ابن الرئيس المغتال سنة 2004 والذي كان يشغل خلال رئاسة والده رئيسا لمصالح الأمن، بدأ نجم رمضان قديروف، بدعم من بوتين، يصعد تدريجيا حيث عين رئيسا للوزراء فيما بين نوفمبر 2005 ومارس 2007، وأصبح رئيسا للجمهورية الشيشانية في 02 مارس 2007 بعد استقالة ألو ألخادوف رمز نهضة معينة للشيشان كانت تسعى إلى تنفيذ برنامج واسع النطاق لإعادة إعمار الدولة لا سيما العاصمة غروزني.
الرئيس رمضان قديروف الذي استطاع، على حساب الآلاف من الاختفاءات القسرية والتصفيات الجسدية على طريقة المافيا التي قامت بها المليشيات التابعة له، أن يضع حدا للتمرد الشيشاني، بحيث أباد البعض من المقاومين الأشداء عن بكرة أبيهم وأخضع الآخرين الذين كانوا يتأرجحون بين المقاومة والاستسلام تحت حذائه، بينما بقي البعض الآخر ممن لم يرض بالذل والمهانة يُقاتل في الجمهوريات القوقازية المجاورة كداغستان وأنغوشيا.
والفيلم التالي يسرد أحدات الشيشان في الحربين (1994-1996) و (1999-2000) اللتين دمرتا هذه الدولة االمسلمة الصغيرة تدميرا كاملا وتركتها خرابا تدروه الرياح، وجعلت أطفالها الصغار الذين كانوا ينامون على أناشيد الأمهات والجدات يعيشون رعبا من المستحيل أن ينشئوا من بعده نشأة طبيعية بعدما أضحت لغة الحوار الوحيدة في القاموس هي الذبح والقتل والتدمير والانتقام:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق