هذا المقال مُهْدى إلى روح كاريكاتيرست جريدة الاتحاد الاشتراكي محمد عليوات
الملقب ب 'حمودة'، ولقد أرفقته بكاريكاتير له جد معبر لبرمجة العقول أسماه المرحوم
بجوازات في الدماغ وهو العنوان الذي اخترته لهذا المقال، والكاريكاتير نُشِر
بجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 2503 بتاريخ 13 يونيو 1990:
إن التاريخ يكتبه الأقوياء وهو قانون ساري وأزلي، فالأفكار العظمى تزدهر دوما
في قلب الإمبراطوريات وبين أحضان المدن المزدهرة، وتحت أضواء مراكز السلطة القوية
العتيدة، وهذا ما كان عليه الحال في المعجزة اليونانية التي أنجبت العلوم كفكر
عقلاني تحت التأثير الكبير للفلاسفة والمفكرين والفيزيائيين بل حتى الزعماء
الدينيين.
ثم انتقلت بعد ذلك الشعلة إلى المسلمين إبان العصور الذهبية للإسلام والعلوم
العربية التي أنارت دروب أوروبا الحالكة الظلمة في القرون الوسطى، وما لبثت الشعلة
أن انتقلت إلى إيطاليا خلال النهضة الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر
الميلاديين، ودوام الحال من المحال، فالشعلة اليوم في القرن الواحد والعشرين
تحملها أمريكا كأكبر وأقوى إمبراطورية عالمية عسكرية، وهي أيضا مركز الحياة
الفكرية في الميادين العلمية والفلسفية والبيولوجية والتقنيات الحديثة، وتفوقها
واضح وجلي على الرغم من بعض المنافسة التي تظهرها بعض دول آسيا، ولسوف يأتي على
هذه الإمبراطورية هي الأخرى، ولو بعد حين، زمن أفول نجمها ثم اندحار حضارتها
المادية الصناعية لا ريب في ذلك، وتلك سنة الله في الخلق والأمم ولن تجد لسنة الله
تبديلا.
ومن البديهي أن يسعى القوي دائما إلى فرض ثقافته وقيمه ونمط عيشه وفكره
على الآخرين سواء بالترهيب أو بالترغيب، ولقد عملت أمريكا على قدم وساق وبجد
وحماس منقطعي النظير منذ زمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي من أجل أمركة
الثقافة والقيم، وهو ما كان يعرف آنذاك ب طريقة الحياة الأمريكية americain way life وأنا أسميها طريقة
'أنا وحدي مضوي البلاد' مع اعتذاري للأستاذ عبدالهادي بلخياط، وليس خافيا على أحد
طغيان الامبريالية الثقافية لأمريكا التي تعج بها الفضائيات وملايير الصفحات على
شبكة الإنترنت، ويتجلى ذلك في منتجات كوكاكولا، ليفيس، ماكدونالد، نيك، آبل،
مايكروسوفت، إيسيو أمبريال، واللائحة طويلة ولن أستطيع حصرها حتى ولو بقيت أعدها
شهرا كاملا.
لقد أدت أمركة الإعلام والمعلومات إلى تحويل البشر إلى كتل لحمية فاقدة لكل
فكر وقرار حر بالرغم من كثرة عدد المتشدقين والمسبحين والمتبركين بنعم العصر
المعلوماتي الجديد للعم سام، فهذا الشيطان المارد أنتج لشعوب العالم لعبة خادعة
ومسلية في آن واحد، تُنسي لبعض الوقت الناس همومهم وأحزانهم وحياتهم القاسية في
عالمهم الذي ما انفك يُضحي أكثر عبثية يوما بعد آخر وبسرعة فائقة، وتنقلهم على
بساط الأثير، كما تُظهِر ذلك بخبث مُسبق الآلة المنومة في رسوم الأطفال الصغار في
قصص علي بابا، إلى عالم افتراضي وهمي حالم، هدفه الأساسي والرئيسي هو أمركة العقول
عن طريق الصوت والصورة، وتحويل العالم إلى سفينة مليئة بالثقوب تبحر في خضم
محيط عات متلاطم الأمواج بدون ربان سفينة أو بالأحرى إلى فوضى عالمية منظمة،
وقد شهد شاهد من أهلها عندما قال الكاتب الأمريكي هربرت أ شيلر: ''إن الأمة التي
تهيمن على وسائط اتصالها قوى أجنبية ليست أمة''، بمعنى آخر أنها ليست حرة في أي
شيء يهم حاضرها ومستقبلها لأنهما بكل بساطة ليسا بأيديها، وفاقد الشيء لا يعطيه.
بلغ عدد مستخدمي الإنترنت اليوم على المستوى العالمي حوالي
ملياري شخص، أي ما يقارب ثلث سكان العالم، وهو جيش جرار وقوة جبارة لا تُضاهيها
قوة أخرى إن استطاعت أمريكا إرضاعها حليب اللغة منذ نعومة أظافرها وتربيتها
على القيم والحياة الأمريكية وتدجينها فيما بعد كاحتياطي عالمي يأتمر بأوامرها ويبشر
بديانتها الصناعية المادية في كل ناد، ولكل شيء ثمن بالطبع، والجوائز القيمة
سوف تكون من نصيب من يُدخل أكبر عدد من الرؤوس إلى زريبة المريكان.
إن من أباد بدم بارد 80 مليون من سماهم بالهنود الحمر، و60 مليون زنجي في أكبر عملية تطهير عرقي
في التاريخ، عانى فيها هؤلاء المساكين الأمرين من الاستبداد والظلم
والاحتقار وشتى أنواع المظالم التي تنزلهم إلى مرتبة أقل من الحيوان في نظر الرجل الأبيض
ذي الدم الأزرق، وما تلا ذلك من مظالم وقتل جماعي بالجملة في جميع بقاع المعمور، انطلاقا من المكسيك ومرورا بالدومنيكان وفيتنام وجرينادا وبنما وأفغانستان
والصومال والعراق ويوغوسلافيا السابقة، ليس عليه أن يعطي لبقية العالم دروسا في
الديمقراطية وحقوق الإنسان، والقيم السامية، والأخلاق وما يزخر به القاموس السياسي
النظري من مصطلحات بعيدة بعد السماء عن الأرض عن الواقع المعاش، بل عليه أن يستحيي
من إجرامه وأن يكفر عنه ولو بإعادة الاعتبار لأحفاد الضحايا، أو حتى مجرد اعتذار
رسمي لهم وبدون مراوغة أو ديماغوجية خاوية، وعليه أن يعمل أيضا على احترام باقي
ديانات وثقافات العالم التي تخالف ثقافته وقيمه ومعتقداته والتزام بيته، وأن لا
يبقى يعيث فسادا في بيوت الناس الآخرين بدعوى الإرهاب أحيانا والديمقراطية وحقوق
الإنسان أحايين أخرى، ولله عاقبة الأمور.