درس في الشجاعة والصبر: قصة استكشاف القطب الجنوبي

درس في الشجاعة والصبر: قصة استكشاف القطب الجنوبي
يعتبر استكشاف القطب الجنوبي على يد الرحالة الإنجليزي روبرت فالكون سكوت في حد ذاته من الأحداث البارزة التي طبعت بداية القرن العشرين ببصامتها الإنسانية السامية التي لا تنمحي، وجعلت من هذا الرجل ورفاقه أسطورة حقيقية في الصبر والتضحية والنبل والشجاعة والبطولة.
كان الهدف الأساسي من جميع البعثات الاستكشافية للقطب الجنوبي المتجمد التي تمت فيما بين 1901 و 1909 هو الوصول إلى القطب الجنوبي الجغرافي بعدما تم للإنسان الوصول فيما قبل إلى القطب الشمالي، وكانت المعلومات المتوفرة آنذاك عن هذه القارة جد ضئيلة خصوصا في المناطق الداخلية التي كان يكتنفها الكثير من الغموض، وتشاء الظروف أن تتزامن بعثتان استكشافيتان لهذه القارة الغامضة الأولى يقودها الإنجليزي 'روبرت فالكون سكوت' والثانية تحت قيادة النرويجي 'رولد أموندسن'، مما خلق منافسة قوية بين الرجلين لمن سيصل الأول إلى الهدف المسطر.
درس في الشجاعة والصبر: قصة استكشاف القطب الجنوبي
اعتمد 'سكوت' في جر الزلاجات المحملة بالأمتعة والمؤن على الأحصنة التي سرعان ما أخذ يصفيها الواحد تلو الآخر بعد إصابتها وعجزها عن المضي قدما في هذه الرحلة الخطيرة و المميتة، مما أرغمه في الأخير إلى إكمال رحلته مع رفاقه الأربعة مشيا على الأقدام معتمدين على قوة الجر البشرية، ولسان حاله يقول هذا أفضل إذ سيكون النصر إنسانيا ونبيلا بما في الكلمة من معنى، في واحدة من أقوى الرحلات معاناة وقسوة خلال القرن الماضي، وسيدفع 'سكوت' في الأخير الثمن غاليا هو ورفاقه مقابل هذا المبدأ الإنساني النبيل.
بينما اعتمد المستكشف الثاني 'رولد أموندسن' عكس منافسه 'روبرت سكوت' على الزلاجات المجرورة بواسطة الكلاب الشيء الذي منحه قوة جر وسرعة كبيرتين أمنتا له النجاح والتفوق على غريمه، ولنفسه الكبيرة أُصيب 'روبرت سكوت' بإحباط كبير لوصوله متأخرا بعد البعثة النرويجية، ومما زاد الطينة بلة والجرح عمقا هو توصل 'سكوت' برسالة من 'أموندسن' يطلب منه إيصال خبر انتصار 'أموندسن' ووصوله إلى القطب الجنوبي إلى الملك النرويجي 'هاكون السابع'، لم يكن القصد من 'أموندسن' نية الإساءة ل'سكوت'، بل كانت رسالته من أجل الاحتياط في حالة وقع له حادث ما، غير أن 'سكوت' لم ير ذلك من نفس الزاوية، بل أحس بإهانة كبيرة عندما شعر بأنه تحول من مستكشف تاريخي إلى مجرد ساعي للبريد.
أخذ 'سكوت' صحبة رفاقه طريق العودة والألم يعتصر قلبه بدون كلاب تذلهم على أثر ذهابهم، مما استنزفهم بدنيا وأفقدهم الكثير من الوقت للعثور على طريق العودة، بينما كان فصل الشتاء بعواصفه الثلجية الهوجاء يقترب بسرعة ويطل على الأبواب، كانت المعاناة قوية لدرجة لا تتطاق، فزيادة على العواصف الثلجية وقلة المؤونة والاعتماد على قوة الجر البدنية البشرية، كانت أجسام الرجال تذوب وتهزل بطريقة مريعة يوما بعد يوم وكانت أطرافهم تتجمد وتموت وتصبح مسودة كالفحم الأسود، ومع حلول شهر فبراير 1912 سينطفئ أول رجل في البعثة 'إيدغار إيفانس'، شهر واحد بعد ذلك ينطفئ ثان رجل في البعثة 'لورانس واتس' بعد إصابته بالغرغرينا الذي أدت إلى تآكل خلايا جسمه وتحطم أنسجته وانتشارها تدريجيا في جسمه، وتضحية منه حتى لا يُعيق مسيرة باقي رفاقه الثلات ويُصبح عليهم عبئا ثقيلا تعمد الرجل ترك نفسه تحت رحمة البرد والجليد حتى فارق الحياة.
تقدم الرجال الثلات 'روبرت سكوت' و 'إيدوارد أدريان ويلسون' و 'هنري روبرتسون بويرس' وهم لا يقوون على المشي يجرون ما تبقى لهم من مؤونة تكفي لأيام قلائل حتى صدتهم عاصفة ثلجية قوية على بعد 18 كيلومتر من مخزن للمؤن، يكتب سكوت في مذكراته: "كل يوم كنا نستعد للتوجه إلى مخزن المؤن ولكن خارج الخيمة لم تكن هناك غير الدوامات الثلجية، لا يمكننا أن نتوقع الشي الكثير الآن"، بقي الرجال الثلات محاصرين داخل خيمتهم لمدة تسعة أيام وحياة كل منهم تتلاشى وتذوب كالشمعة، وأصبحت المسألة مسألة وقت ليس إلا، استغل سكوت ما تبقى في جعبته من جهد قليل في كتابة يومياته وكتابة رسائل لزوجته والتي كان يخاطبها في رسائله بسيدتي الأرملة، ثم كتب رسالة للناس يقول فيها: "لا أظن أن هنالك بشرا على الإطلاق عاش ما عانيناه خلال شهر، ولكن من جهتي لم أندم على قيامي بهذه الرحلة"، وآخر ما كتبه سكوت بتاريخ 29 مارس 1912 كان: "لو بقينا على قيد الحياة لأمكنني أن أؤلف كتبا بأكملها والتي سيكون من المستحيل أن تستنفد الثروات الهائلة من الشجاعة والتحمل التي أبداها رفاقي، والتي ربما يهتز ويرتجف لها قلب أي إنجليزي"، ثم ختم كلمته الأخيرة قائلا: "سوف نتشبت حتى آخر رمق ولكننا أصبحنا أكثر فأكثر ضعفا، ومن الواضح أن النهاية لم تعد بعيدة، إنها لحسرة وخسارة ولم يعد بإمكاني الكتابة أكثر من هذا، روبرت سكوت 29 مارس 1912، محبة في الله، إلهي ارع أهلنا"، سيتم لاحقا عن طريق بعثة إغاثة العثور داخل الخيمة على ثلاث جثت متجمدة وكان 'سكوت' منحنيا على يومياته على أهبة التحرير.