دروس تلقائية صادقة وعميقة في مغزاها، قد تكون مبكية أحيانا ولكن أكثرها مضحكة ومسلية لدرجة أنها تحول الضحك إلى دموع منهمرة ليست كدموع البكاء، دروس لكل الناس ولكل الأعمار نُقشت في رؤوس الرجال الذين توارثوها أجيالا بعد أجيال، كانت تُلقى في الهواء الطلق بساحة جامع الفنا خارج ضيق الجدران وبعيدا عن الرقابة المضروبة على السمع واللسان، كان كل قسم هو عبارة عن حلقة يجتمع فيها الناس على شكل دائرة حول 'الحلايقي'، والدائرة تتسع أو تضيق حسب المادة المقدمة في الحلقة باستثناء حلقة الشرقاوي مول الحمام ورفيقه وصديقه الأعمى الحميم بلفايدة رحمهما الله اللذين كانت حلقتهما مستطيلة الشكل نظرا للعدد الهائل من الأواني النحاسية والفضية والورود البلاستيكية وطيور الحمام التي كانت تُضفي علي هذه الحلقة طابعا خاصا ومتميزا.
كنا ننتقل من قسم إلى قسم بكل حرية وبدون إعلان مسبق لأحد، كالنحل في بحثه عن رحيق لأحلى وأجود الزهور، نبدأ بحلقة مول الحمام الذي كان يأمر الحمام بالطيران والهبوط فوق بنك المغرب الذي كان يبعد عن مكان الحلقة بحوالي 150مترا، وخلال ذلك كان يدور حديث بين الرجلين على شكل سؤال وجواب:
- طبيبت منين؟ (طبيبت هو طائر صغير بحجم قبضة اليد لونه بني يعيش داخل مدينة مراكش)...طبيبت فقيرة مراكشية،
-الحمامة منين؟...الحمامة مكاوية،
-الجاوج منين؟ (الجاوج هو طائر صغير بحجم قبضة اليد لونه رمادي أو مزركش بألوان خافتة يعيش بالبوادي المحادية لمراكش)...الجاوج مسيوي،
-الدجاجة منين؟...الدجاجة حربيلية،
- الجمل منين؟...الجمل دكالي،
-البقرة منين؟...البقرة رودانية،
-البغل منين؟...البغل قنيطري،
-السلوكَي منين؟...السلوكَي فروكَي،
-العتروس منين؟ (العتروس هو ذكر المعز)...العتروس عتابي،
-الكلب منين؟...الكلب مجاطي،
-العكَربة منين؟ ( العكَربة هي العقرب)...العكَربة سباعية،
-اللفعة منين؟ (اللفعة هي الحية السامة)...اللفعة سوسية،
وبعدها ينادي الشرقاوي على سرب الحمام الواقف فوق بنك المغرب للعودة إلى الحلقة فيفعل ذلك في الحين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى قسم آخر ودرس من دروس الحياة، إلى حلقة عمر الميخي رحمه الله التي كان يقدم فيها أغاني مرفوقة بالطر والدربوكة والعود بعدما يقوم بتحوير كلماتها كليا حتى تضحي غاية في السخرية والضحك، وهي الحلقة التي كانت تضحكنا حتى تنهمر دموعنا وتضرنا أمعاءنا من كثرة الضحك، وما إن نصل إلى الحلقة حتى ننسلت من بين الكبار ونقف في الصف الأمامي وجها لوجه أمام عمر الميخي ثم يحدثنا قائلا: " الدراري اللي ما جلس للأرض راه مرد"، فنسرع بوضع محفظاتنا أرضا على الأسفلت لأنه كان باردا ونجلس فوقها، ولا زلت أذكر بعض أغانيه منها أغنية عْلاَشْ يَا غْزَالِي التي يقول مطلعها:
عْلاَشْ يَاغْزَالِي وَعْلاَشْ يَا غْزَالِي
مْشِيِتي فْحَالَكْ كِيفَاشْ النُّومْ يَحْلاَ لِي
وَعْلاَشْ يَا اللاَّيْمْ خَلِّيتْنِي هَايْمْ
كْوِيتْنِي وُعَادِتِينِي قُلِّي عْلاَشْ
مْشِيتِي وُخَلِّتِينِي قُلِّي عْلاَشْ
قُلِّي عْلاَشْ النُّومْ مَا حْلاَشْ
وَعْلاَشْ يَا غْزَالِي؟
فحور كلماتها عمر الميخي رحمه الله بشكل يثير موجة من الضحك على الشكل التالي:
عْلاَشْ يَا حْمَارِي وَعْلاَشْ يَا حْمَارِي
هَزِّيتِي الْبَرْدْعَة...وَخَلِّيتِي لِي الشّْوَارِي
دَرْتْ لِيكْ الصّْفَايْحْ...خَلِّيتْنيِ طَايْحْ
وُبََلْتِي وُرَشِّتِينِي...قُلِّي عْلاَشْ
وُدَرْتِ وُرْكَلْتِينِي...قُلِّي عْلاَشْ؟
قُلِّي عْلاَشْ..الشّْعِيرْ مَا بْقَاشْ
قُلِّي عْلاَشْ..التّْبَنْ مَا حْلاَشْ
وَعْلاَشْ يَا حْمَارِي؟
ثم أغنية آشْ دَّانِي التي يقول مطلعها:
آشْ دَّانِي وَعْلاَشْ مْشِيتْ
غِيرْ نَظْرَة مَنْ عْيُونُو بَاشْ بْلاَنِي
رَاهْ كْوَانِي آشْ دَّانِي
فحور كلماتها هي الأخرى عمر الميخي رحمه الله بطريقة مثيرة للضجك حتى الاستلقاء على الشكل التالي:
آشْ دَّانِي ( لماذا سعيت نحو؟ )
الْبِيبِي ثَانِي ( بيبي هو الديك الرومي)
غِيرْ عَضَّة مَنْ فَخْذُو (فخدو تعني فخده)
بَاشْ كْوَانِي (كواني تعني أصابني بكية وهي أصلا من الكي)
آشْ دَّاني رَاهْ كْوَانِي
ثم أغنية جنان السبيل الساخرة من المخنثين والمتأنسين من الذكور التي هي من كلمات وغناء وتلحين عمر الميخي رحمه الله :
جنان السبيل الجلسة اللي بغا الزين (جنان السبيل هو حديقة بمدينة فاس المغربية)
الفهيم (الفهيم تعني أيها الفاهم)
اصحاب الصلاة والدين هم المعلمين
هادوك ربنا حافظهم من كل رزية (هادوك تعني هؤلاء، من كل رزية تعني من جميع الرزايا)
تصيب شي وجاه الكرفي والنفخة العوالجية (وجاه الكرفي أو وجوه العذاب والمحنة، أما النفخة العوالجية فتعني تكبر العلوج)
كثرة المرودة بزاطمهم بالتصاور عامرين (المرودة أي المردة، بزاطمهم أو حافظات نقودهم، والتصاور تعني الصور)
ثم
أغنية المرأة والكلب التي هي كذلك من كلمات وتلحين وغناء عمر الميخي رحمه الله والتي تقول كلماتها:
ثم أغنية يالمسرارة التي تقول في مطلعها:
أَحِيَّانَا يَا لَلاَّ أَحِيَّانَا يَا
خَالْتِي،
أَحِيَّانَا يَا لَلاَّ وَكُلْشِي مَنْ مُولاَنَا،
الَمْرَاة وَالْكَلْبْ دَارُوا الْعَرْسْ،
قَالِّهَا الْكَلْبْ بْغِيتْ انْعَسْ،
قَالَتْ لُو بَالشَّلْحَة فَسّْ،
دَابَا تَنْعَسْ حْدَايَا.
آهْ يَالْمَسْرَارَة،
رَبِّي زَيّْنَكْ وُقَدَّكْ جْمِيلْ يَالْمَسْرَارَة،
فحور كلماتها عمر ميخي بطريقة ساخرة كانت تهتز فيها الحلقة بالضحك حتى البكاء، وتقول الكلمات:
آهْ يَالْمَصْنَانَة
رَبِّي خَيّْبَكْ وَقَدَّكْ بْشِيعْ يَالْمَصْنَانَة (المصنانة هي كريهة رائحة الإبطين)
وتدنو الشمس من المغيب في شفق أحمر يسيل نضاره فوق العقيق على ذرى سوداء، ثم ينزل الستار عن الحلقة، ونودع بعضنا البعض، ونعود إلى منازلنا ونحن نحاول أن نربط بين ما يُقال في المدرسة الحكومية الرسمية وما يُقال في الحلقة دون فائدة، ولكن ذلك علمنا شيئا مهما ألا وهو أن الحياة ليست لونا واحدا أو تسير على نمط واحد بل هي عدة أنماط وألوان متداخلة ومتراكبة لدرجة يستحيل معها فرزها وعزل كل منها على حدة، وأن الحكمة والخير وتجربة الحياة قد تجدها أحيانا حتى فيمن يعتبرهم البعض من الأميين والدراويش، والعود اللي تيتحقر هو اللي تيتقب العين كما يقول المثل الشعبي المغربي.
هوامش: مسيوة (مسيوي)، حربيل (حربيلية)، دكالة (دكالي)، تارودانت (رودانية)، القنيطرة (قنيطري)، فروكَة (فروكَي)، أولاد اعتاب (اعتابي)، مجاط (مجاطي)، أولاد بو السبع (سباعي)، سوس (سوسية) كل هذه الأسماء هي لمناطق وقبائل ومدن مغربية، فقط مكاوية هي التي تنسب إلى مكة المكرمة.