رموني بعقم في الشباب وليتني..

خلال القرون الوسطى التي مثلت عهود الظلام والانحطاط في أوربا كانت منارات العلم عند المسلمين تشع وتتدفق ينابيعها الرقراقة الصافية بشتى العلوم والمعارف بلسان عربي قويم، حيث كانت في ذلك التاريخ لغة العلم الوحيدة في العالم بأسره فيما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، لكن بسقوط آخر ملوك الطوائف بغرناطة أبو عبدالله سنة 1492، بدأ الضعف والهوان يسري تدريجيا في جميع أوصال الأمة الإسلامية من المحيط إلى الخليج.
ومع مطلع القرن العشرين تعرض المغرب لاحتلال فرنسي منذ عام 1907، حيث أصبح واقعا فعليا ما بين 1912 و1956، وكرس إبان هذه الفترة سياسة لغوية تقتضي الإقصاء الكلي للغة العربية من الحياة العامة وإحلال محلها اللغة الفرنسية، وتجدر الإشارة هنا على سبيل الذكر لا الحصر للدورية الشهيرة التي أصدرها في 16 يونيو 1921 المقيم العام آنذاك المارشال 'ليوطي' إلى رؤساء المناطق المدنية والعسكرية التي جاء فيها:" من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية، فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام"، وقد نشرها القائد العسكري 'بول مارتي' في كتابه 'مغرب الغد' الصادر بباريس سنة 1925 ص 288 وشرحها موضحا: " إن كل تعليم للعربية وكل تدخل للفقيه، كل وجود إسلامي سوف يتم إبعاده بكل قوة، وبذلك نجذب إلينا الأطفال الشلوح عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد متعمدين كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام....". 
ولا يمكن لأي عاقل أن يشكك لحظة أن القصد من هذا التوجه هو إضعاف الروابط والأواصر القوية المتينة القائمة يبن اللغة العربية والدين باعتبارها لغة القرآن، واللغة التي دونت بها أغلب مصادر التراث والثقافة الإسلامية، وتذكر الدراسات أن 60 لغة آسيوية وأفريقية لأمم إسلامية كانت تكتب بالحرف العربي حتى جاء الاحتلال وأنهاها كليا، لأن الحرف العربي الذي تُكتب به لغة إسلامية من شأنه أن يكون حلقة الوصل بين هذه الأمم وبين القرآن الكريم المكتوب بالحرف ذاته، وهو مدخل سهل لتعلم القرآن ولغته، فالذي يتعلم كيف يكتب لغته بالحرف العربي يستطيع قراءة القرآن بأقل جهد، أما إذا كُتِبت اللغة بالحرف الغير العربي انقطعت الصلة بين متكلميها وبين قراءة القرآن، وما التشبث المستميت بكتابة حرف تفناغ بالحروف اللاتينية رغم صعوبة هذا الأمر ويسره باللغة العربية إلا دليل قاطع على صحة الحرب المفتوحة على لغة القرآن.
إن الاستخراب الفرنسي حين أسس المدارس الحديثة حرص على إبعاد اللغة العربية، فأُقصيت عن المجالات الإدارية والاقتصادية والتقنية وبالتالي أصبحت معرفة اللغة العربية لا تجدي نفعا في المجتمع العربي، لقد حوصرت وحوربت اللغة العربية في عقر دارها بدعوى عجزها أن تكون لغة علم وحضارة، وقد روّج لهذه الفكرة الكثيرون ممن رفضوا التعريب وحاربوه، واليوم بعد مرور ما يزيد على قرن من الحروب والدسائس والمؤامرات التغريبية على وأد اللغة العربية ومن تم تسهيل عمل الهدم من الداخل لمحو أي أثر للقرآن الكريم، نجد أن حملة لواء دعوات التغريب والتحدث بغير لغة الشعب المنصوص عليها في الدستور هم من أبناء جلدتنا وبمثابة سدنة المصالح الاستعمارية والضامنين لها بشكل أو بآخر، لهم رؤية أخرى مناقضة لأغلب مكونات الشعب المغربي، بحيث يرون أن البديل هو التوجه نحو الغرب بلغته وثقافته و جعل العربية لغة شعائر دينية ليس إلا، وليست لغة دين وأدب وفكر وعلوم بدعوى أن كثيرا من الأمم لها لغتها التي تفكر بها ولغتها الدينية التي تتعبد بها وتقرأ بها، ولقد اعتمد هذا الطابور المعروف بدفاعه الشديد عن الفرنكفونية وكرهه البالغ للعربية وامتعاضه واحتقاره للمتكلمين بها على تكتيكات غاية في المكر والدهاء لتنفير النفوس منها، كاعتبار المدرسة الفرنسية بالمغرب هي ذات الأهلية وبالتالي هي الضمانة الأكيدة للظفر بمناصب شغل في الأبراج العالية، وعلى النقيض من ذلك تسند وظائف في أسفل السلم الاجتماعي لا تسمن ولا تغني من جوع لخريجي مدارس ومعاهد لغة الضاد.
وتبعا للسياسات التعليمية المتبعة في المغرب منذ أول وزير للتعليم في فجر الاستقلال محمد الفاسي رحمه الله وتوصيات اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي لم تر النور إلى يومنا هذا بالطريقة المثلى والإعداد الجيد اللذين تقتضيهما الضرورة الملحة والانطلاقة نحو إصلاح جدري وحقيقي، يمكن اليوم بعد مرور أكثر من ستين عاما على استقلال بلدنا تلخيص نتائج ذلك من خلال تقسيم المتعلمين أو "القاريين" إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى وهي ما أسميه ب"طابور فرنسا بالمغرب" وهم كل الذين فتحوا أعينهم في أحضان ماماهم فرنسا وبعثاتها، وتكونت تكوينا ابتدائيا وثانويا وجامعيا لا مجال فيه للغة الضاد حتى ولو مجرد مزحة كاذبة، وهي الفئة الأكثر حظا للوصول إلى المناصب العليا في البلاد أو ما شابهها، والفئة الثانية التي فتحت أعينها على المسيد واللوحة والصلصال والقرآن و"مشحاط" الفقيه، وتنقسم إلى فريقين: الفريق الأول أو ما أسميه ب"الجنس الهجين" وهو الذي انتقل بعد ذلك إلى مدارس الشعب، وأنهى تعليمه العالي "مفرنسا" بمعاهد سواء داخل المغرب أو خارجه، والفريق الثاني أو ما أسميه ب"الجنس الأصيل" وهو كذلك تلقى تعليمه في مدارس الشعب، ولكنه يختلف عن شقيقه في كونه أنهى تعليمه العالي بلغة الضاد بمعاهد سواء داخل المغرب أو خارجه، وهما الفريقان اللذان يسيطران على أغلب الوظائف المتوسطة والدنيا سواء في القطاع العمومي أو الخاص، ما بعض الاستثناءات التي لا يمكنها أن تشكل القاعدة وتقلب الطاولة رأسا على عقب، وتأتي الفئة الثالثة أو ما أسميه ب"الجنس التائه" والتي لم تفتح أعينيها لا في أحضان ماما فرنسا ولا في مسيد الفقيه، وهي فئة كالماء لا لون ولا طعم لها، فئة تائهة بدون بوصلة أو مرجعية يمكن أن تعتمد عليها كأساس لوجدانها، وبالتالي هي كورقة في مهب الريح، فانظر رعاك الله لأي فئة تنتمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق