فضيلة الصبر

يحكى أن رجلا وسيما ومثقفا كان يعيش في إحدى المدن التي كانت تُدرس فيها جميع العلوم، وعلى الرغم من كفافه وعفافه وغناه عن الناس، كانت تجتاحه رغبة قوية للتبحر في العلوم واكتساب المزيد من المعرفة، وحدث يوما أن أخبره أحد التجار المتجولين بوجود عالم من خيرة العلماء في زمانه وأكثرهم حكمة وفضيلة وأغزرهم علما بإحدى البلاد البعيدة، ورغم شهرته التي ملأت الآفاق كان هذا العالم يكسب قوت يومه من مهنة الحدادة البسيطة مثلما كان شأن والده من قبله وجده من قبل والده.
بعدما سمع الرجل هذا الكلام هيأ عدته وعتاده وغادر أهله وعشيرته، وسار مسيرة أربعين يوما وأربعين ليلة حتى وصل أخيرا إلى مدينة العالم الحداد، ذهب مباشرة إلى السوق وقصد محل العالم الذي دله عليه بعض الناس، وقف الرجل مندهشا أمام العالم الجليل الطاعن في السن منهمكا في عمله كسائر الناس وقد بدت على وجهه علامة الهيبة والوقار.
الرجل: السلام عليكم سيدي،
العالم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ما الذي أتى بك إلى هنا بني؟ يبدو أنك لست من أهل هذه المدينة،
الرجل: جئت كي أتعلم وأستفيد منك سيدي،
وكرد على جوابه ناوله العالم الحداد حبل الكير أو المنفخ الذي يحمي النار وأمره بالجذب، استجاب المريد الجديد لأمر شيخه وأخد يجذب ويطلق الحبل بلا توقف وبدون أن ينطق بكلمة منذ وصوله حتى غروب الشمس، وفي الغد كان يقوم بنفس العمل، وسارت الأمور على هذا المنوال بقية الأيام والأسابيع والشهور حتى اكتملت السنة من دون أن يكلمه أحد بما في ذلك العالم ومريديه القدامى الذين كان كل واحد منهم منشغلا بعمله الشاق والمتعب في صمت تام، وبعد مرور خمس سنوات نفذ صبر الرجل وتجرأ أن يفتح فمه مخاطبا العالم الجليل : "سيدي......."، توقف العالم عن العمل، وكذلك كل المريدين وساد صوت رهيب المكان، وامتلك الجميع قلق مبهم ولم يجرأ أحد على الحديث.
التفت العالم الحداد نحو الرجل وقال: ماذا تريد؟
أجاب الرجل: العلم... العلم....العلم،
العالم الحداد: اجذب الحبل،
وبدون أن ينطق أحد بأية كلمة استأنف الجميع العمل، ثم مرت بعد ذلك خمس سنوات أخرى كان الرجل خلالها يجذب حبل المنفخ من الصباح حتى المساء بدون توقف وبدون أن يكلمه أحد، ورغم ذلك كان هنالك تواصل فريد من نوعه بين العالم ومريديه، فمتى احتاج أحد منهم لإيضاح واستنارة عن أي سؤال وفي أي موضوع كيفما كان يجب عليه أن يكتب طلبا خطيا ويقدمه إلى شيخه في الصباح عند بداية العمل، لم يكن الشيخ يقرأ الأسئلة، وإن حدث ورمى بأوراق في النار فذلك بدون شك راجع لكون الأسئلة لا تستحق الإجابة عنها، وإن وضع بعض الأوراق في عمامته فالمريد الذي تقدم بالسؤال يجد الجواب عليه مكتوبا بأحرف من ذهب على جدار غرفته.
وبعد انصرام عشر سنوات، اقترب في صبيحة أحد الأيام العالم الحداد من الرجل وربت على كتفه بعطف وحنو، تفاجأ الرجل وأرخى الحبل من بين يديه مندهشا وهو لا يصدق نفسه، ولأول مرة منذ عشر سنوات شعر بفرحة وسعادة سرت في جميع أنحاء جسمه، فقال العالم: أي بني، يمكنك الآن أن تعود إلى موطنك وأهلك وعشيرتك بكل علوم الدنيا وكل علوم الحياة في قلبك، لأن كل هذا قد حصلت عليه باكتسابك فضيلة الصبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق