رؤية أينشتاين للعالم

يعتبر كتاب'كيف أرى العالم' الذي نُشِرت أولى نصوصه  بأمستردام سنة 1934، وامتد تأليفه حتى سنة 1955 ، وتُرجم إلى معظم اللغات العالمية، باكورة أفكار ورؤى صاحب النظيرة النسبية وأب الفيزياء الحديثة 'ألبرت أينشتاين' للعالم من زاوية المنطق الرصين والفكر النير الأصيل،استطاع  هذا العالم الفذأن  يعرض من خلاله، باعتماد أسلوب مبسط واقتفاء منهج فكري قوي ومتماسك، مواقفه المبدئية في شتى الميادين العلمية والدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومن بين نصوصه المشرقة المعبرة الثابتة كالرواسي التي لا يمسها تقادم ولا ينال منها زمن انتقيت ما يلي:
كم هو فريد موقفنا نحن البشر، إن كلا منا على الأرض في زيارة عابرة يجهل سببها ولكنه يعتقد في قرارة نفسه أنه يحس ويدرك هذا السبب، ولسنا بحاجة إلى أن نجهد الفكر كثيرا لكي نتبين أن لنا في الواقع رأيا واضحا في حياتنا اليومية، فنحن هنا من أجل الآخرين، أولئك الذين نستمد كل سعادتنا من ابتسامتهم وبهجة حياتهم فلذات أكبادنا وأحباؤنا وكذلك أيضا من أجل الجمع الغفير من الناس الذين وإن كنا لا نعرفهم تربطنا وإياهم روابط التآخي والتعاطف، وإليك ما يجول بخاطري وأحس في أعماقي ما مرت الدقائق أو تعاقبت الأيام، إن حياتي الداخلية والخارجية تعتمد عمل معاصري وأسلافي وجهودهم، ولذلك كان حتما علي أن أسعى ما وسعت بأن أرد جميلهم بقدر ما نلت وما زلت أنال من ثمرات جهودهم، ولذلك أحب بساطة العيش وأشد ما يؤلمني أن أحس بأني أغتصب من عرق الآخرين أكثر مما تستوجبه الضرورة الملحة، إني أحس أن الفوارق بين الطبقات الاجتماعية ليست عادلة، إنها ظلم صارخ لا يعتمد في حقيقة الأمر إلا على الاغتصاب، إني أعتقد اعتقادا راسخا أن حياة متواضعة لا تَكَبُّرَ فيها تصلح لكل منا جسدا وروحا.
إني لا أومن إطلاقا بحرية الإنسان بمعناها الفلسفي، إننا جميعا لا نعمل تحت الضغط الخارجي فحسب بل نعمل بدافع الحاجة الداخلية أيضا، إن كلمة 'شوبنهاور': "  لا شك أن الرجل يستطيع أن يفعل ما يريد ولكنه لا يستطيع أن يريد كل ما يريد"، قد تغلغلت في أعماقي منذ الصبا وكانت دائما عزاء لنفسي في ملمات الحياة وشدائد الوجود كما كانت معينا لا ينضب للتجلد والصبر، إن الإحساس بذلك يخفف عن كواهلنا ثقل الشعور بالمسؤولية الذي ننوء به ويُضني أجسامنا، كما يدفعنا إلى التساهل فلا نأخذ أنفسنا أو الآخرين مآخذ الجد والصرامة، إذ يهدينا هذا الإحساس إلى فهم للحياة لا تزمت فيه يمتاز بأنه يفسح المجال للعيش ببهجة وانشراح.
لقد لمست خلال تأملي أن دأب التفكير في المعنى والغرض من وجودنا ووجود الخلائق الأخرى أمر لا معنى له من الناحية الموضوعية ومع ذلك فلكل منا من الناحية الأخرى مثله العليا التي تقوده في اختيار أهدافه وتكوين أحكامه، وبهذا المعنى لم تكن الرفاهية ونعيم الحياة في يوم من الأيام أو بشكل من الأشكال غاية الغايات بالنسبة لي، بل على العكس أنني أسمي مثل هذا المبدأ المثل الأعلى للخنازير.
إن المثل العليا التي أنارت سبيلي في الحياة والتي ملأتني على الدوام شجاعة ساهرة كانت دائما وأبدا "الخير والجمال والحق"، فلو لم أحس بذلك التوافق والانسجام بيني وبين من يشاركونني الرأي، ولولا سعيي الدءوب وراء ذلك الهدف المنشود الذي لا نبلغه أبدا في مجال الفن والبحث العلمي لبدت لي حياتي فارغة خاوية.
إن الأهداف الرخيصة التي يجري وراءها عامة البشر مثل الثراء ومظاهر النجاح الظاهري والرفاهية، كل هذه كانت بالنسبة لي منذ حداثة سني بضاعة تعسة تمجها نفسي، وعلى العكس من شعوري بالواجب الاجتماعي وتمسكي بالعدل كثيرا ما آنست في نفسي عزوفا عن الرغبة في التآلف مع الآخرين وارتياد اجتماعاتهم، إنني حقا 'سواح منفرد'، لم أكن مِلْكاً بكل جوارحي لبلدي أو بيتي أو لأصدقائي أو حتى لعائلتي في أضيق نطاق، إنني لم أفقد أبدا اتجاه هذه الروابط الإحساس بالغربة والبعد والحاجة إلى الانفراد، وهذا الشعور يزداد حدة على مر السنين، إن المرء يصبح بهذا الشكل حاد الحساسية من دون أسى، بحدود الفهم المتبادل والتوافق مع الآخرين، ولا شك أن رجلا مثل هذا لا بد أن يفقد جزءا من دعته وهدوء باله ولكنه يكسب استقلالا رائعا أمام آراء وعادات وأحكام الآخرين، فلن تحدثه نفسه أبدا بأن يُرسِي قواعد استقراره الوجداني على أسس مضللة كآراء وعادات وأحكام الآخرين أي ما يسمى بالعُرْفِ السائد.
إن مثلي الأعلى السياسي هو المثل الأعلى الديمقراطي، يجب أن تحترم شخصية جميع الأفراد وأن لا يؤله أحد، وإنه لمن سخرية القدر أن يخلع علي معاصري الكثير الزائد من الاحترام والإعجاب دون أن تكون لي يد في ذلك أو أن أستحق منه شيئا، وقد يكون هذا راجعا إلى عجز الكثيرين نظرا  لعدم توفر الوسائل لهم عن فهم القليل من الأفكار التي اهتديت إليها بفضل جهودي الضعيفة خلال عمل دائب لم يجنح إلى الهدوء أبدا، إنني أعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن ينجح أي تنظيم يتحمل أعباء تخطيطه وينهض بكل تبعاته ومسؤولياته فرد واحد يستأثر بكل السلطة، ولا يجوز أبدا أن يكون المحكومون مجبرين، فلا بد أن تترك لهم الحرية في اختيار الرئيس، إنني مقتنع جدا أن أي نظام دكتاتوري أوتوقراطي في بناءه لا بد أن يتداعى في ظرف قصير، إن الاستبداد يستهوي ضعاف النفوس ويجتذبهم إليه وإني مقتنع تماما أن عباقرة الطغاة يخلفهم السفلة المنحلون، ولهذا السبب كنت دائما عدوا لدودا للنظم المماثلة لما نراه الآن في روسيا وإيطاليا، إن مبعث عدم الثقة الذي يلابس النظام الديمقراطي في أوربا لا يرجع إلى الفكرة الأساسية من ذلك النظام، وإنما يرجع إلى عدم استقرار الحكام وعدلهم وإلى الطابع غير الشخصي في طريقة الاقتراع، وأظن أن الولايات المتحدة قد اهتدت في هذا المجال إلى الطريق السوي، إن لهم رئيسا مسؤولا ينتخب لفترة طويلة من الزمن وله ما يكفي من السلطات لتحمل أعباء المسؤولية، ويعجبني مقابل ذلك في نظمنا الحكومية الاهتمام بالأفراد في حالتي المرض والعوز، إن العامل المهم في رأيي في اضطراد التطور التقدمي الإنساني ليس هو الدولة وإنما الفرد المبتكر الحساس، هؤلاء وحدهم هم الذين يبعثون بيننا نفحات من السمو والنبل، بينما تظل كتل الجماهير غبية التفكير بليدة الإحساس. ويقودني هذا الموضوع إلى الحديث عن أسوأ البدع، عن تلك الحشود المسلحة لنظم الحكم العسكرية التي أمقتها....يجب أن نمحو بأسرع ما نستطيع هذا العار عن جبين الحضارة، فكم تبدو لي الحرب لعينة مرذولة، إنني أفضل أن أقطع إربا إربا على أن أشارك في عمل بائس كهذا، ومهما يكن من شيء فإن تقديري للجنس البشري عال لدرجة تجعلني مقتنعا كل الاقتناع بأن جميع هذه المخازي كان لا بد أن تختفي منذ أمد بعيد لولا تضليل الشعوب الذي يتم بطريقة منظمة بواسطة الصحافة والمدرسة لصالح فئة الاستغلاليين أيا كانوا في دنيا السياسة ودنيا المصالح الخاصة.
إن أجمل ما نتمتع به هو الناحية الغامضة من الحياة، إنه الإحساس الصافي العميق الذي يفيض من نبع الفن والعلم، إن من تبلد شعوره وأصبح لا يحس بالدهشة أو العجب هو ميت حقا انطفأ نور عينيه، إن الإحساس بالغموض ممتزجا بالخوف خلق الديانة أيضا، فالعلم بأن هناك حجبا لا يمكننا تخطيها والوقوف على مظاهر الانسجام العميق والجمال البارع الخلاب اللذان لا تستوعبهما عقولنا إلا في أبسط صورة من صورهما، هذه المعرفة وذلك الشعور هما جوهرا التقوى والزهد والعبادة الحقيقية، وبهذا المعنى وعلى هذا النحو وحده أجد نفسي واحدا من أعمق المتدينين، لأنني لا أستطيع أن أصور لنفسي إلاها يعاقب ويكافئ مخلوقاته ويفرض إرادته عليها كما نفرضها على أنفسنا، إنني لا أستطيع أن أتصور إنسانا يحيا بعد موته الجسدي، وما أضعف تلك النفوس التي تتغذى بدافع الخوف أو الأنانية المضحكة بمثل هذه الأفكار، يكفيني أن أستمتع بهذا الغموض الذي يكتنف أبدية الحياة وأن أحس وأعي البناء الذي يثير العجب لكل ما هو موجود، وأن أجاهد قدر طاقتي حتى أُلِمّ بقبس مهما كان ضئيلا من النور أو الفكر الذي يتجلى في الطبيعة جمعاء.
فما معنى وجود كل الكائنات الحية عموما؟ أن تستطيع الإجابة على هذا السؤال يستوجب أن يكون لك شعور ديني حي، ولعلك تسألني وهل هناك إذا معنى لهذا السؤال؟ وأجيبك على الفور إن كل من يخالجه إحساس ولو مثقال ذرة بأن حياته وحياة الآخرين عديمة المعنى ليس تعسا فحسب بل يكاد أن لا يكون حيا.
إن يقيني أن كل ما في العالم من مال وثراء لا يستطيع أن يوفر للإنسانية التقدم والازدهار الذي يصبو إليه حتى ولو كان ذلك المال والثراء في أيدي أشد الرجال حرصا على بلوغ ذلك الهدف، ولكن القدوة الحسنة وحدها هي التي تستطيع ذلك، إذ أنها تدفع الإنسان إلى الأفكار والأعمال النبيلة، إن المال لا يجلب إلا الشقاء والأنانية وهو يٌغري دائما بإساءة استخدامه، هل يمكن أن نتصور موسى أو المسيح أو غاندي ولأيهم ثراء كارنجي؟؟!
إن قيمة الإنسان الحقيقة مرهونة بأمرين: مدى ومعنى ما بلغه في سبيل التحرر من الذات، وما أسعد أن يفتح المرء عينيه فيرى ويحس ويبني حُكْمَهُ دون أن يخضع لسلطان الـمُوضَة اليوم، ثم أن تستطيع التعبير عما ترى وعما تحس، هل أنت في حاجة مع كل هذا أن أهنئك؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق