هانيبال: قمة الوفاء والشرف


ليس قصدي بالحرية تلكم التي ينشدها ويبتغيها طابور المتغربين من أوليدات اليهود والنصارى والماسونية العالمية التي حولت بلاد المسلمين إلى 'بورديل' حاشاكم، المسبحين بقيمهم وديمقراطيتهم العاهرة ليل نهار، الساجدين على أعتابهم من أجل الظفر بسلطة أو منصب أو مال، إنما قصدي حرية النفوس العزيزة الشريفة الأبية التي تستشف كرامة الحياة والأحياء وتحمل هموما أكبر بكثير من همومها ولا تركع أو تسجد لبشر من دون الملك المعبود الذي لا إلاه سواه، ولا ريب في أن البطل هانيبال يعتبر بدون منازع إحدى تلك النماذج القليلة والمنارات المضيئة الثائرة في التاريخ البشري على الاستعباد والمذلة والطغيان، وأي مأثرة في العصور القديمة أثارت الكثير من الإعجاب وعلامات الاستفهام الكبرى أكثر مما أثارته قصة عبور جبال الألب من طرف هذا القائد الفذ المغوار؟ إنجاز اعتُبِر آنذاك عملا بطوليا منقطع النظير أقرب إلى أساطير آلهة اليونان.
 ولازالت هذه المغامرة إلى يومنا هذا تثير الدهشة والإعجاب والاقتدار في آن واحد، ففي سنة 218 ق م اندفع القائد هانيبال مع ستين ألف رجل ليقطع أجزاء من افريقيا وأوروبا وليعبر بعد ذلك جبال الألب التي ترتفع قممها لارتفاعات شاهقة يصل علوها إلى 4810 م وتمتد كحاجز طبيعي على طول 1200 كلم ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الدانوب، وكان الهدف وراء هذه المغامرة المحفوفة بشتى المخاطر والأهوال هو غزو الإمبراطورية الرومانية التي لم يستسغ هانيبال ذو النفس الأبية والهمة العالية الجنرال الفريد من نوعه الذي تمرن على قيادة الجيوش منذ كان عمره تسع سنوات استباحتها أراضي موطنه قرطاجنة وعبثها فيها فسادا واستعبادها لشعبها استعبادا مذلا بعد انتصار الرومان في الحرب البونية الأولى وسيطرتهم سيطرة مطلقة على البحر الأبيض المتوسط.
 بعد اجتياز هانيبال جبل طارق بن زياد هاجم إقليم 'ساجنتوم' باسبانيا معلنا بذلك انطلاقة الحروب البونية الثانية، فحاول إيهام الرومان بأن هدفه هو غزو الأراضي الإسبانية لاحتلالها والتوسع فيها، مما انخدع له القائد الروماني 'سكيبيو' الذي تحرك بسرعة لصد جيش هانيبال فوق الأراضي الإسبانية، مما حدا بهانيبال أن يغير مساره بعد سقوط 'سكيبيو' في الفخ وينحرف بجيشه باتجاه الجنوب الشرقي ليعبر جبال الألب وينقض على الجيوش الرومانية المرعوبة في عقر دارها، والتي لم يكن يتصور أو يتخيل أحد من قادتها حتى في المنام أن يعبر هانيبال بجيش غريب وعجيب في تركيبته من الجنود والأحصنة والفيلة والمؤن حاجز جبال الألب الذي كانوا يعتقدونه سدا منيعا من المستحيل عبوره خصوصا في فصل الشتاء القاسي والشديد البرودة، فدارت ثلاث معارك حربية متتالية على الأراضي الرومانية أولاها معركة 'تريبيا' التي وقعت في شهر ديسمبر من عام 218 ق م وانتهت بانتصار ساحق لجيش هانيبال الذي فقد 6000 فارس و 38 فيلا، بينما أسفرت هذه المعركة على خسائر فادحة في الجيش الروماني قدرت بمقتل 20000 محارب، تلتها بعد ذلك معركة 'بحيرة تراسيمينيا' سنة 217 ق م التي انتصر فيها أيضا جيش هانيبال انتصارا ساحقا، مسفرة عن مقتل ما بين 1500 و 2500 محارب قرطاجي بينما وصلت خسائر الرومان إلى مقتل 15000 محارب وأسر  10000 آخرين، أما معركة 'كانيا' التي دارت رحاها في شهر غشت من سنة 216 ق م فكانت من أشد المعارك وأدماها بحيث أسفرت عن مقتل 6000 محارب قرطاجي في حين أن خسائر الرومان كانت فادحة ووصلت إلى مقتل 45000 محارب وأسر 20000 آخرين، لدرجة أن بحيرة تراسيمينيا امتلأت عن آخرها بالجثث الطافية فوق الماء.
وأمام هذه الانتصارات الباهرة التي بدأت تؤذن بسقوط روما في يد القرطاجيين واندحار الحضارة الرومانية أمام الزحف القرطاجي بقيادة هانيبال كان لابد من تغيير التكتيك الحربي لدى الرومان أمام خصم عنيد وشجاع ومصمم على الانتصار أيما تصميم، لجؤوا إلى إبداع خطة فريدة من نوعها لإطالة أمد الحرب لأول مرة في التاريخ بالاعتماد على عامل الزمن وذلك بعدم التلاحم المباشر مع الجيش القرطاجي والانسحاب دائما أمامه بدون قتال أثناء توغله داخل أراضي الإمبراطورية الرومانية، وهي الخطة التي اقترحها الداهية الماكر 'فابيوس كونتاكور' أمام أعضاء مجلس الشيوخ الروماني وأتت أكلها، بحيث طال أمد المعركة كثيرا فهلكت الفيلة، التي كانت سلاحا مدمرا فتك بالجيش الروماني، بسبب الإنهاك والمرض، كما مات عدد كبير من جنود هانيبال من شدة البرد والإنهاك وقلة المؤن وانعدام الإمدادات، فضعف جيشه لدرجة خطيرة مما اضطره إلى العدول على استكمال مسيرته نحو روما وتولي الأدبار مع ما تبقى من جنده المنهك والعودة إلى قرطاجنة.
فانتظر بعد ذلك الرومان الظروف المواتية لينقضوا على قرطاجنة انقضاض الأفعى على فريستها ويلقنون أهلها درسا عصيبا حتى لا تقوم لهم من بعد قائمة، وكان ذلك في معركة 'زاما' في أكتوبر من سنة 202 ق م، عندما دك الرومان القرطاجيين دكا وردوا لهم الصاع صاعين، هذه المعركة التي أسفرت عن مقتل 20000 محارب قرطاجي وجرح  11000 وأسر 10000 آخرين، أما في الجانب الروماني فكانت الخسائر تتجلى في مقتل 1500 محارب وجرح 4000 آخرين.
 وبهذه المعركة تم وضع حد بصفة نهائية لمقاومة القرطاجيين وتمردهم رغم المقاومة التي أبداها هانيبال في عدم الاستسلام والرضوخ والخضوع للرومان على عكس خصومه من القرطاجيين الذين انهاروا كليا واستسلموا استسلاما تاما وارتضوا الذل والهوان، فخضعوا  بعد ذلك لنير الرومان واستعبادهم، مما حدا بالقائد هانيبال الذي لم يستسغ تلك الوضعية المذلة والمهينة بعد عدة محاولات يائسة لاستدراك الوضع والأخذ بزمام الأمور بعدما تكالب عليه الجميع وصار ٍرأسه مطلوبا  أينما حل وارتحل من طرف روما وحتى من أبناء جلدته الذين خانوه من بعدما عاهدوه  إلى وضع حد لحياته بالانتحار سنة 183 ق م عن عمر 63 سنة بتناوله جرعة قاتلة من السم، حتى لا يعطي لعدوه اللدود فرصة إلقاء القبض عليه وإهانته أمام شعبه، بعدما تحطم أمله الرئيسي والأساسي في الحياة والذي كان يتمثل من الانتقام من عدوه الأبدي روما وتحطيمها كما أقسم بذلك لوالده 'أملكار باركا' عندما كان عمره لا يتجاوز تسع سنوات.
 لقد أُسدِل الستار عن واحدة من أعظم الملاحم التاريخية التي قادها باستراتيجية وحنكة وشجاعة رجل وحيد عمل المستحيل ليجتاز جبال الألب في أقسى الظروف بجيش صغير وغير متجانس يشك حتى في جاهزيته ليهز به عروش روما في عقر ديارها بجيوشها النظامية الجرارة التي تفوق جيشه عدة وعتادا بكل المقاييس، تلكم الملحمة البطولية الخالدة التي تركت آثارها كعلامة بارزة ومنارة مضيئة في تاريخ البشرية برمته إلى الأبد...."وتلك الأيام نداولها بين الناس" صدق الله العظيم،  ولنا في التاريخ دروس وعبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق