إشريشيا كولي رفيقتي

في العهد القديم اعتبر الناس الطاعون عقابا سلطه الإلاه على العبرانيين، وعانى الإغريق من هذا المرض أيضا إبان اندلاع الصراع بين أثينا واسبرطة حوالي عام 430 قبل الميلاد، ولما ضرب الطاعون روما عام 166 م أرجع الرومانيون ذلك إلى انتقام إلاههم أبولون الذي كان يجمع الأموال والنفائس في أحد معابده من عبيده الفقراء الذين ضاق بهم الحال وسدت في وجوههم السبل فنهبوا وسرقوا ثروته.
وتجدر الإشارة أيضا إلى الطاعون القبرصي الذي حدث عام 250م، وفيما بين سنوات 1346 و 1350 م جاء الموت الأسود من آسيا عن طريق الحرير البرية والبحرية متدثرا بالسواد وحاملا معه منجله الحاد يجز بها الرؤوس التي أينعت وحان قطافها يمنة ويسرة لا يفرق بين طفل وامرأة ورجل، فأهلك عددا كبيرا من سكان أوروبا مخلفا وراءه جبالا من الجثث قُدر مجموع الهالكين  حينها بما يتراوح بين 20 و 30 مليون شخص، ومن بقي من الناس فر هاربا بجلده ولبث هائما على وجهه تاركا وراءه قصورا وضياعا وممتلكات تنوح فيها البوم، وطاعون جيستينيان الذي هلك الحرث والنسل خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر. 
فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان يمتلكه الرعب الأعظم عندما يفكر بالموت ومهووس بالجنس حتى النخاع، أما الحمى الإسبانية فقد كانت أكثر فتكا من الحرب العالمية الأولى نفسها، حيث أصابت 500 مليون شخص وأهلكت خلال الفترة 1918 و 1920 ما بين 20 و 50 مليون شخص، أي أكثر مما قتلت الحرب العالمية الأولى (13 مليون شخص)، من خلال انتشارها ابتداء من الصين مرورا باليابان، روسيا، أوروبا ثم أمريكا الشمالية، أما التيفوس فقد هلك 3 ملايين شخص خلال انسحاب جيش نابوليون من روسيا وخلال الثورة الروسية، وفي بداية القرن العشرين تم رصد عدة آلاف من حالات حمى التيفويد ظهرت لدى الناس إثر شربهم مياها ملوثة بمياه الصرف الصحي أو تناول أطعمة محضرة أو تم  لمسها من قبل أفراد مصابين ببكتيريا السالمونيلا التيفية.
خلال القرن العشرين اختفت بصورة شبه تامة معظم الأمراض الرئيسية المعدية كالسل، الجدري شلل الأطفال والدفتيريا...، لكن الأوبئة هي ظواهر فوضوية لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم فيها، ففي سنة 1982 ظهر بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار مرض السل في نيويورك والمدن الكبرى الأمريكية، وظهر أيضا أعداء جدد مثل التهاب الكبد الفيروسي الوبائي والإيبولا، وازدادت البكتيريا والميكروبات والفيروسات مقاومة للمضادات الحيوية، مما حدا بمنظمة الصحة العالمية  في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين أن تعتبر الطاعون مرضا معاودا للظهور. 
أما وباء الكوليرا الذي كان لفترة طويلة منحصرا في قارتي آسيا وأوروبا فقد انتقل خلال سبعينيات القرن الماضي إلى القارة الإفريقية، وخلال تسعينياته انتقل إلى أمريكا، مع ملاحظة  ارتفاعات كبيرة في حالات العدوى والوفيات، أما الدفتيريا أو الخناق التي كان مُسَيْطَرٌ عليها بشكل جيد عن طريق التلقيح فقد انفجرت خلال تسعينيات القرن الماضي بالاتحاد السوفياتي السابق، كما ظهر أيضا وباء التيفوس في كل من بوروندي ورواندا والكونغو وما انفك يزحف ويتوغل  داخل القارة الإفريقية الغنية بمواردها والفقيرة بأهلها المسلط عليهم سيف ديموقليطس الروماني، وعلى الرغم من خطورة هذه الأوبئة وفتكها بالبشرية، يمكن اعتبار وباء الإيدز أو السيدا  الجائحة الأكثر خطورة في تاريخ البشرية، بعد انتشار هذه العدوى خاصة وسط المثليين والمثليات والمدمنين على الهيروين والمدمنات وإصابة ما يناهز 40 مليون شخص في بقاع المعمور بهذا الفيروس المحطم لمناعة الجسم والمدوخ لجميع الخبراء والمختبرات الطبية للأبحاث حول العالم، مجرد فيروس ميكروسكوبي لا يُرى إلا تحت المجهر لكن آثاره المدمرة للأنفس والمجتمعات تُرى بصورة ضخمة وثلاثية الأبعاد تكاد تغشى العالم.
مع ظهور المضادات الحيوية ظنت البشرية أنها أصبحت في منأى من عدة أمراض كانت بمجرد سماعها 'تطيح الما فالركابي' للناس، كالتيفوس، الكوليرا والطاعون، لكن هذا الظن سرعان ما تحول إلى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، نظرا لظهور بكتيريا أصبحت تلبس طاقية الاستخفاء، تمر الأدوية والمضادات الحيوية بالقرب منها 'برق ما تقشع'، لدرجة أن حبيبة الجهاز الهضمي وعشيقته إشريشيا كولي التي بادلته حبا بحب ووفاء بوفاء دون أن يعكر أي منهما صفو حياة الآخر بالرغم من تقزز ومقاومة الحبيبة إشريشيا لبعض المضادات الحيوية، لكن دوام الحال من المحال، لكون الأمور تطورت نحو الأسوأ في السنين الأخيرة وتحول التعايش والتساكن والمصالح المشتركة إلى نفور وعداوة، وأضحت مقاومة إشريشيا أشد شراسة من ذي قبل، وتجدر الإشارة أن الخلية الواحدة من إشريشيا كولي يمكن أن تنتج كتلة من البكتيريا تزيد عن كتلة الأرض في ثلاثة أيام وذلك إذا توفر لها الغذاء، علما أن الميكروبات تعيش على جلد الإنسان وفي فمه وأمعائه كطفيليات، وهي تستغل أجسامنا في تزويدها بالغذاء والدفء مقابل أن تمدنا هي الأخرى بخدمات ضرورية لعمل الجسم البشري كبكتيريا الأمعاء التي تساهم في تزويد الإنسان بالفيتامينات مثلا، وهي تتكيف بكفاءة مع أجسامنا وتعيش في عالمها الضئيل بسلام دون أن تؤذي أحدا، وتلك حالة ا لميكروبات العادية غير الضارة والتي تصاحب كل الكائنات الحية، ويحدث المرض عندما يشق ا لميكروب سبيله في جسم مضيفه أو في جزء منه لا يكون تكيفه معه تاما.
وعندما تثور الميكروبات وتغير جلدها الوديع لتكشر عن أنياب السخط لا تعود المضادات الحيوية أو غيرها من الأدوية يُجدي نفعا بل قد تصب الزيت على النار لظهور بكتيريا شرسة متعددة المقاومة، تلكم المضادات التي كانت في ما مضى من الأزمان الدواء السحري الذي أنقذ العديد من الأنفس منذ اكتشافه، فهل باستطاعة البشرية أن تحارب عدوا لذودا شرسا له كل هذه القدرة على التكيف؟ ليس الأمر بالهين والمؤكد، لأن البشرية عانت الويلات من القوة المدمرة للبكتيريا والفيروسات وهلكت تحت تأثير عدوى بدون لون أو طعم أو رائحة، فحتى أواسط القرن العشرين، كان ما يزال الطاعون، الكوليرا والتيفوس يحصدون أرواح تجمعات سكانية برمتها، لقد أنسى الناس اكتشاف الدواء المعجزة البنسلين المستخرج من الفطر سنة 1928 من طرف عالم الأحياء الاسكتلندي ألكسندر فليمينغ بأنه دواء حديث العهد حتى ولو بدا لهم أنه قوي وفعال بالنسبة للإنسان والحيوان على حد سواء، لأن استعماله على نطاق واسع وبكميات ضخمة أصبح يدعم ويعزز يوما بعد آخر تكاثر الميكروبات التي تقاومه، لقد بقيت البشرية مترنحة سكرانة بنصرها المبين على الميكروبات لفترة ناهزت 70 سنة وفي ظنها أن المضادات الحيوية هي الدواء السحري والمعجزة، حتى استيقظت في السنين  العشر الأوائل من القرن الواحد والعشرين على وقع كابوس وخطر محدق يزحف على صحة البشرية ليقدمها قربانا للردى والهلاك جراء الاستعمال المفرط واللاعقلاني للمضادات الحيوية، ووعيا منهم بخطورة الموقف والعواقب الغير متوقعة مستقبلا، أصبح العديد من الأطباء يتحاشون ما أمكن وصف المضادات الحيوية لمداواة مرضاهم، ولكن بالنسبة للمواشي ما زالت هذه الأدوية تستعمل على نطاق واسع، والنتيجة هي ظهور جراثيم عالية المقاومة تنتشر بسرعة في البيئة الطبيعية وتنتقل إلى الإنسان عن طريق لمس المواشي أو عن طريق الأطعمة والحبوب والخضر واللحوم أو عن طريق مخلفات ونفايات المواشي التي تلوث موارد المياه السطحية منها والجوفية.
وقصد إيجاد حل لهذه المعضلة، اجتمع في أواسط شهر شتنبر 2010 بمدينة بوسطن الأمريكية مختصون من جميع أنحاء العالم، وخرجوا بالإجماع على أن الأمور تبدو سيئة ولا تدعو للتفاؤل، واعتبروا أن النظام الصحي القديم المبني على العلاج بالمضادات الحيوية بالدرجة الأولى قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من لفظ أنفاسه الأخيرة، ومن اللازم تخفيض بشكل كبير استهلاك المضادات الحيوية على المستوى العالمي في انتظار اكتشاف أدوية أخرى تحل محلها وتقوم مقامها الذي كان أيام زمان 'الضربة على النيف'، غير أن المشكلة كما يراها المختصون والباحثون تقتضي، من أجل تطوير أسلحة مبتكرة جديدة لمحاربة هذه البكتيريا المقاومة بشراسة لم يسبق لها نظير، ظهور فكرة ثورية بكل ما للكلمة من معنى كما كان عليه الحال إبان اكتشاف ألكسندر فليمينغ للبنسيلين في الثلث الأول من القرن الماضي، وانتظار ما بين 10 و 15 سنة مع تعبئة استثمارات ضخمة، وفي حال تعذر الأمر لسبب أو لآخر فليس من المستبعد في السنوات القادمة أن تأخذ البكتيريا بزمام الأمور وتبدأ من جديد في حصد الأرواح بالجملة في أكبر سيناريو واقعي للرعب الحقيقي وليس رعب أفلام الخيال العلمي بعد هدنة قصيرة لم تتجاوز قرنا من الزمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق