أساطير ومعتقدات وممارسات وطقوس

يعتبر الراحل 'بول باسكون' (1923-1985) بحق فقيه علم الاجتماع القروي المغربي والباحث الذي صال وجال في كل ربوع المغرب من شماله حتى أقصى جنوب صحرائه ومن شرقه حتى غربه، بجباله وهضابه وسهوله ووديانه، ولم تُثْنِهِ كل الأخطار المحدقة والمشقة المضنية وصعوبة المسالك في الذهاب لملاقاة والجلوس أيام مع سكان الأرياف والدواوير الأكثر عزلة وشظفا في العيش، يشاركهم معيشتهم ويكابد ما يكابدون ليقف بنفسه على الحقائق وبعض ما يجيش في النفوس وما يختفي ويتلاشى تدريجيا تحت غبار الأزمنة المتقادمة  وبقايا نصوص متكائلة.
وكانت كل أبحاثه المبنية على المنهجية العلمية الصلبة تنم عن خبرة ودراية كبيرتين مقرونتين برصانة وعمق في التمحيص والتحليل، ومستندتين إلى المعاينة المباشرة والممارسة الميدانية التي تقترب من الناس البسطاء لدرجة الذوبان فيهم كما يذوب الملح في الماء، فهو الباحث الذي كان يعتبر بأن البحث في القيمة النسبية لما هو موثق ومكتوب أو لما هو متداول فقط شفهيا بين الناس يتم انطلاقا من أربعة مقاييس أساسية هي الصدق، الأمانة، الدقة ثم الوضوح، من ضمن مجموعة مقاييس أخرى، غير أن ذلك لن يُعْفِ من بدل مجهود نقدي سواء بالنسبة للمكتوب أو المنطوق على حد سواء، ومن الديماغوجية الاعتماد على الذاكرة الشعبية واعتبارها ناطقة بالحقيقة، كما أنه من الوهم الاعتماد فقط على الوثائق المكتوبة، لأن الفائدة المنهجية والتربوية تكمن في مقابلتهما بالذات.
من بين النصوص النادرة التي كتبها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي وتم نشرها  في مجلة العلوم الإنسانية "بيت الحكمة"- العدد الثالث - أكتوبر 1986، تلك التي تتعلق بالأساطير والمعتقدات بالمغرب، حيث أبرز بول باسكون بأن المغاربة، مثلهم في ذلك مثل السواد الأعظم من الشعوب عبر العالم، يعيشون في العديد من أنساق الاعتقاد، فهناك مجموعة متنافرة من الممارسات الطقوسية السابقة على رسالة الإسلام  قد يندهش المغاربة كثيرا في معظمهم طبعا لو سمعوا هل من الممكن أن يوجد تنافر؟ بل يمكن الحديث عن تناقض أو منافاة، ورغم أن الدين المنزل، المشروع والشرعي، هو المحك لكل معتقد ابتداعي في الظاهر أو لكل تجديد عصري، يبقى من الضروري التذكير بالخلفية الأكثر إظلاما وغموضا وإلغازا، التي تتعايش مع القرآن والعلم الحديث ضمن السذاجة الشعبية.
من بين هذه الأساطير والمعتقدات التي كانت ترجع إلى فترة ما قبل الإسلام تلك التي كان إنسان هذا الكوكب يفك علامات الأرض وتنهداتها عن طريق أشكالها الجوفية، إن عبادة المغارات ومنابع المياه ظاهرة مهيمنة بالمغرب ( الباحث الكولونيالي هنري باسي  Henri Basset في 'عبادة المغارات في المغرب' الجزائر 1920). 
ويبدو أن المغارات والينابيع حسب هذه المعتقدات هي منافذ الخروج والتجلي لأعماق الأرض وللجن القاطنين تحتها، فالكهوف تمثل فم القوى الجوفية وبطنها، والينابيع عيون (بالعربية كما بالأمازيغية 'طيت') تسيل منه الدموع، وداخل هذه الأعماق، يسكن الجن الذين يهربون منها في ساعات أو ليالي معينة ليحرسوا الكنوز المطمورة فيها، ومن اللافت للنظر أن أسطورة 'جودر الصياد'، وهي من حكايات ألف ليلة وليلة، تجعل المغرب مسرحا للفصل الذي يتحدث عن المغارة المكدسة بالذهب والأحجار الكريمة، ففي الكهوف التي تشكلت فيها رواسب كلسية هابطة وصاعدة، مُورست عبادات خاصة، تعتبر أن هذه الرواسب عبارة عن شموع كما هو حال العديد من تقديسات 'بوقنادل'، أو على أنها ضروع أبقار تنضح بحليب صوفي كحالة مغارة 'بوسلهام'، أو على أنها حاشية من الجن أو من الحيوانات الخارقة كما هو الحال بالنسبة لمغارة 'تاغرداشت' بنواحي تازة.
إن المغارات تتكلم، والهواء الذي يسري في جنباتها يُوصل إلى  الآذان تنهيدات وصرخات وأصوات صفير، كما أن الينابيع المتقطعة تفور وتجأر، والزوار يأتون لسماع أجوبة عن أمور غيبية تتعلق بالاضطراب الذي يعاني منه كل واحد منهم، مثلما هو الحال في الولي الصالح 'بوإيندر' في إقليم دمنات، وبمنطقة 'إيغرم'  بالأطلس الصغير تقوم النساء برجم مغارة مغلقة على خَاطِبٍ نَكَثَ عهده، ثم ينصتن إلى صرخاته ويؤولن نبوءاته عن الغيب، كما لا يخفى أيضا التقليد التنبئي الغيبي الذي يعتبر ممارسة قديمة لفعل الاستخارة، حيث كان الشخص ينصح عشية اتخاذه لقرارات حاسمة بأن يفرغ نفسه ويتطهر ويفكر مليا ويتفحص قيمة الأشياء ومقاصده العميقة، وإن الخلو بالنفس والنوم في بعض المغارات الشهير مثل 'تاكَندوت' ب 'نكنافة'، و 'تاغيت إخنيفن' بمنطقة سوس جنوب المغرب، و 'سمهروش' الراقد على سفح جبل طوبقال، تمكن من تلقي بعض النبوءات والأحلام التي لا يتبقى على المرء سوى تفسيرها، وثمة فقهاء موجودون لهذا الغرض كي يعرف الطريق السوي والسلوك المناسب، يُضاف إلى ذلك أن المغارات هي الأمكنة المفضلة لطرد الشر، وفضائلها العلاجية معروفة لمسافات بعيدة، ويقيم الناس بها لحل جميع أنواع الصعوبات الذهنية والجسدية. 

وبما أن الأمراض يُنظر إليها باعتبارها ناجمة عن عمل الجن، فإن أي شيء أكثر طبيعية من أن يجري البحث عن جن آخرين في أماكن إقامتهم بالذات قصد طرد الجن الأوائل؟ هكذا فإن الأدواء الرئيسية المعالجة هي أدواء العقل، أو الأدواء التي تعتبر كذلك مثل الصرع والفُصام والجنون بصفة عامة، أي الأمراض التي نسمي المصابين بها بأنهم "مسكونون"، كما يزور أناس آخرون المغارات قصد علاج اضطرابات الخصوبة كالعقم والإجهاض المتكرر أو عدم ولادة طفل ذكر، كما تجدر الإشارة أيضا إلى طقوس اختفت كلية اليوم مثل التي كانت تحصل في بعض المغارات الشهيرة مثل مغارة 'زكرة' بمنطقة تازة ومغارة 'إيلالن' بالأطلس المتوسط، طقوس كان يطلق عليها إسم 'ليلة الغلط'، حيث يدخل أفراد من الجنسين إلى المغارة قصد الاحتفال بمدار فصل الشتاء أو باعتدال فصل الربيع ويتعاطون لعلاقات جنسية حرة، وفي الأماكن الرطبة تسكن كبيرة الجنيات 'عيشة قنديشة"، وهي واحدة من الجن النادرين بالمغرب الذين أضفى عليهم إسم علم وشخصية محددة، حتى وإن كانت مزدوجة، إنها بالنسبة لبعض الناس شابة حامية تغوي عشاقها وتسحرهم ثم تلتهمهم مثلما تصنع 'فويفر' المخلوق الأسطوري الرائع الذي يأخذ شكل تنين أو ثعبان حسب معتقدات وتقاليد المنطقة، أو 'مرغانا' البروتونية. 
ويعتبر البعض الآخر 'عيشة قنديشة' هذه ساحرة شمطاء حسودة تتلذذ  بالفصل بين الأزواج، ويبدو أنها هي عشتار ملكة الحب القديمة، التي كانت معبودة على امتداد البحر الأبيض المتوسط من قبل الكنعانيين والفينيقيين والقرطاجيين، كما كانت تغذي الدعارة المقدسة، وإذا كانت 'عيشة قنديشة' لم تعد تخيف اليوم سوى الأطفال، فإن الأمر يحتاج للكثير كيلا يكترث بها الراشدون حتى وإن كانوا متمدرسين، وإن ذكر إسمها في مدرج بإحدى الكليات يثير ضحكات عصبية، ليست ساخرة دائما، فقد قرر أحد أساتذة الفلسفة الأوروبيين، بعد أن شرع في كتابة بحث عن 'عيشة قنديشة' أن يحرق كل ما دونه من وثائق ويوقف أبحاثه بعد أن وقعت له أحداث عديدة وغريبة لا تفسير لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق