لا تكن سيد أحد ولا تكن عبد أحد.. كن سيد نفسك وعبدا لله

"إن أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألا يفعل الإنسان إلا ما يُرضي الله، وأن يتقبل كل ما يقسمه الله له" الفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس (121 م-180 م)
لا تكن سيد أحد ولا تكن عبد أحد.. كن سيد نفسك وعبدا لله
إذا ما رُفِعْتَ فجأة إلى ارتفاع هائل وَأَمْكَنَكَ أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها، لأن مجال نظرك سوف يضم أيضا حشدا هائلا من الأرواح التي تَأْهُلُ الفضاء والسماء، ولأنك مهما أَعَدْتَ الكَرَّةَ فسوف ترى الأشياءَ نفسَها: الرَّتَابَةَ وَالزَّوَالَ، هل هذه الأشياء تستدعي الزُّهُوَّ وَالْخُيَلاَءَ؟
تَذَكَّرْ في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمة واللين أكثر إنسانية وبالتالي أكثر رجولة، فالرحماء هم ذوو القوة والبأس والشجاعة، وليس القساة ولا الساخطون، فكلما تحكمت في انفعالاتك كنت أقرب إلى القوة، فالغضب دليل ضعف شأنه شأن الجزع، فَالْغَاضِبُ وَالْجَزِعُ كلاهما أُصِيبَ وكلاهما استسلم.
لا تتصرف كما لو كنت سوف تعمر آلاف السنين، فالموت يترصدك، وما دمت تعيش، وما دام بإمكانك.. كن خَيِّراً، لا تتخبط هنا وهناك، ولكن في كل حركة من حركاتك كن عادلا، وفي كل خَطْرَةٍ من خَطَرَاتِكَ الْتَزِمْ مَلَكَةَ الرأي والفهم.
احْرِصْ على ألا تتحول إلى قيصر، وألا تصطبغ بهذه الصبغة، فقد تقع في ذلك إذا لم تتوخ الحذر، فكن دائما بسيطا، طيبا، جادا، غير مُرَاءٍ، محبا للعدل، خاشعا لله، لينا، رقيقا، ذا همة في كل ما تُنْتَدَبُ له، كن مُوَقِّراً لله وراعيا للناس، فالحياة قصيرة والتقوى والعمل الصالح هما الثمرة الوحيدة لهذه الحياة الأرضية.
لا تحلم بامتلاك ما لا تمتلكه، بل تأمل النعم الكبرى فيما تملكه، وذكر نفسك كم سَتُفْتَقَدُ هذه الأشياء لو لم تكن لديك، ولكن احْرِصْ ألا تدع التنعم بها يجعل منك مدمنا لها معتمدا عليها، كيلا تَبْتَئِسَ إذا ما فقدتها يوما ما.
أَحِبِّ الفن الذي تَعَلَّمْتَهُ-أَيّاً كان- وارْضَ به، واقْضِ ما تبقى من حياتك كإنسان نَذَرَ نفسه لله بكل قلبه، واحتسب عنده كل ما لديه، ولا تجعل من نفسك أبدا طاغية على أي إنسان ولا تكن قط عبدا لأحد.
عش حياتك دون أي ضغط قهري، وفي أتم سكينة عقلية، حتى ولو هتف العالم كله ضدك، وحتى لو مزقت الوحوش أعضاء هذه الكتلة الجسدية البائسة الملتفة حولك، عش كل يوم كما لو كان آخر يوم من حياتك..بغير سُعَارٍ، وبغير بَلاَدَةٍ، وبغير رِيَاءٍ.
سأبقى سائرا في طريق الطبيعة حتى أسقط وأَخْلُدَ إلى الراحة، فَأَلْفِظَ أنفاسي الأخيرة في هذا الهواء ذاته الذي تَنَفَّسْتُهُ عبر أيام عمري، وأسقط على ذات الأرض التي مَنَحَتْ أبي بذرته ومنحت أمي دمها ومُرْضِعَتِي لبنها، الأرض التي أطعمتني يوما بعد يوم وسقتني سنواتٍ طوالٍ، الأرض التي احتملت وَطْأَتِي عليها واحتملت مني كل ضُرُوبِ الْإِسَاءَةِ.
ما أشد كَذِبَهُ وتَصَنُّعَهُ ذلك الذي يقول 'لقد عَقَدْتُ النية على أن أكون مُخْلِصاً لَكَ'، ماذا تفعل أيها الرجل؟ وما الداعي لهذه المقدمات؟ الأفعال سوف تكشف كل شيء، الإخلاصُ يجب أن يكون مكتوبا على جبينك، متجليا في نغمة صوتك وبريق عينيك، تماما كما يقرأ المحبوب كل شيء في أعين محبيه، للصلاح والإخلاص رائحة نافذه لا يخطئها العابر، أما تَكَلُّفُ الإخلاص فأشبه بالخنجر، لا شيء أكثر انحطاطا من صداقة الذئاب، فسحقا لها، الرجل الصالح والْخَيِّرُ تَنْضُجُ نَظْرَتُهُ بهذه الصِّفاتِ كُلِّهَا ولا تُخْطِئُهُ الْعَيْنُ.
أيما شيء يحدث لك فقد كان يُعَدُّ لك منذ الأزل، وكان مُقْتَضَى الأسباب يَغْزِلُ لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد.
أيها الإنسان الفاني، لقد عشت كمواطن في هذه المدينة العظيمة، ماذا يهم إن كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يَصْرِفُكَ ليس قاضيا مستبدا أو فاسدا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك، إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أَشْرَكَ ممثلا كوميديا في الرواية وهو يَصْرِفُهُ عن المسرح. 
استئناف الحياة إنما يحدده الكائن الذي رَكَّبَكَ أول مرة والذي هو الآن يُفْنِيكَ، وما لك من دور في أي من الْعِلَّتَيْنِ، اِذْهَبْ بسلام إذن، فالإله الذي يَصْرِفُكَ هو في سلام معك.
المدون بتصرف عن: 'التاملات' للفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق