التلفزيون والإنترنت معكم في كل مكان وأينما كنتم، إنهما يحملان خلانهما وخليلاتهما إلى أي طرف من أصقاع الكرة الأرضية ويجمعان لهم خلال ثوان معدودات ما لن يستطيعوا أن يحصلوا عليه بوسائلهم الخاصة حتى ولو كرسوا حياتهم برمتها من المهد إلى اللحد لذلك، لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، فهذه النظرة ليست مجردة أو مختارة أو متحكم فيها من طرف المتلقي، ولا يمكنه توجيهها الوجهة التي يبتغي ويرتضي، بل هي مفروضة عليه بعيون الكاميرا السائحة في طول الكرة الأرضية وعرضها، كي تنقل له مجانا صورا حلوة كالسم في العسل لدرجة أن رؤيته للأمور تضحي لديه مشوشة وفي أحايين أخرى مشوهة باعتماد أسلوب انتقائي يميل إلى اختيار مواضيع وأماكن وزوايا التقاط صور بعينها أكثر من غيرها، وذلك حسب الهدف الغير معلن المراد الوصول إليه، وحسب المشاورات التي تدور وراء الكواليس في غرف التحرير وما فوقها، التي هي في حقيقة الأمر ليست سوى أوكارا للدعارة السياسية وتحصيل عقود الإعلانات والإشهار وأسواق نخاسة لبيع وشراء أي شيء وأي كائن كان مهما علا شأنه في كل زمان وفي كل مكان.
وخلال هذا العرض التلفزي والسيبرنيتي المرتفع الإيقاع الذي يبدو للكثيرين مخبرا ومفيدا ومشوقا ومرفها، تتم عملية تحويل وتغيير داخلية خطيرة باستغلال سذاجة المتلقي، فقد أثبتت الكثير من التجارب العلمية التي أُجريت في هذا الصدد إثباتا قاطعا على أن المعلومة عندما تنتقل بسرعة فائقة مع التركيز على إعادتها على المتلقي أكثر من مرة فإن الدماغ البشري بطبيعة تكوينه يميل إلى اعتبارها بشكل متزايد على أنها حقيقة ثابتة من دون أن يتساءل عن مدى صحتها ومصداقيتها، فالتكرار يعلم حتى الحمار كما يقول المثل، فوسائل الإعلام عندما تقصف أدمغة الناس بكم هائل من المعلومات فإنها تقوم بذلك عنوة وعن قصد حتى يُصاب الدماغ بالتخمة و الجهاز النقدي بداء فقدان مناعة خطير ومدمر يحوله إلى مجرد إمعة وبيدقا من البيادق يصيح بأعلى صوته بما ينادي به من ملؤوه وشحنوه، ومن تم يؤسس لصورة غير واقعية عن العالم، وخير مثال صارخ على ذلك هو الإشهار الذي لا يعلم فقط بل يسلب حتى لب الحمار.
ومن الواضح أن معظم المستهلكين الكبار للتلفاز والنت يتسمرون أمام الشاشة حتى لا تُنير عقولهم فتذكرهم بفشلهم في الحياة أو العمل أو انهزامهم في معارك العيش اليومية الحامية الوطيس أو حتى مجرد استخلاص فواتير الماء والكهرباء والهاتف، فعندما تُضيء الشاشة الصغيرة ينطفئ نور العقل، ولن أكون مبالغا إذا قلت أن وسائل الإعلام بصيغتها الحالية هي على شكل ثقب أسود جبار يلتهم بسرعة الضوء كل من يقترب منه حتى لا يبق ولا يدر لأي فكر حر غير موجه ومروض ترويض الكلاب البوليسية، لذلك لوحظ منذ أواسط القرن الماضي انحدار متسارع في المستوى التعليمي في كل أرجاء المعمور مُرَافق بارتفاع مستوى التفاهة وانخفاض الحس الإنساني والذوق الرفيع في العديد من المجالات، لأن التلفاز والنت أصبحا هما المفكر والمربي والقدوة وبكل اختصار هما المرجعان الرئيسيان الأساسيان في كل شأن من شؤون الحياة لدى معظم بني البشر في الأركان الأربع من الكرة الأرضية.
إن وسائل الإعلام تنوم المتلقين تنويما مغناطيسيا إلى درجة أن يعتقدوا أن ما تقدم لهم هو تجسيد حقيقي للواقع، ومن النادر جدا أن يتساءل هؤلاء عن مصداقية ذلك، وغالبا ما يقتنعون بأن العالم هو كما تقدمه وتنقشه في أدمغتهم وسائل الإعلام، وكل ما تقوله هذه الوسائل صحيح ولا تشوبه شائبة، فالصورة والصوت واضحان لدرجة لا تثير الشكوك، والعين الحداثية الحديثة تعشق في آن واحد كل غريب شاذ وكل جميل أخاذ، لكن وراء هذا البناء المنمق الملمع الذي يبدو ظاهريا صادقا وبريئا تختفي حقيقة أخرى مغايرة لذلك تماما، فالتقارير التي تقدم تحتوي غالبا على مقاربات وأحيانا حتى أحداث ووقائع كاذبة وملفقة بكل بساطة بواسطة أجهزة جد متطورة وبرامج فيديو ومونتاج من آخر صيحة، ولا يساور أدنى شك الكثير من المتلقين السلبيين في تصديق ما يتم قصفهم به وهم في حالة استرخاء واستسلام لا نظير لها، ولا يمارسون فكرهم النقدي الحر ويتساءلون ولو مرة واحدة في حياتهم: لماذا كل هذه السذاجة والغباء اللذين نحن عليهما؟
إن القائمين على وسائل الإعلام يدركون جيدا أن الإنسان بطبيعته يُخيفه الخلو بنفسه منذ الأزل، ولقد أصاب الأديب الفرنسي هونوري دي بلزاك عندما قال مرة: "كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وفيما يتعرض له من مخاطر ومتاعب وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن الاعتكاف، ومن هنا جاء ولع الناس بالضجة ومن هنا كان السجن عذابا مريعا ولذة الوحدة أمر يستعصي عليهم فهمه"، لذلك غالبا ما يميل الكثير من الناس إلى الحلول السهلة حتى ولو كانت قاتلة، باعتمادهم رأي الأغلبية حيث يشعرون شعورا زائفا بدفء الجموع، وفي جميع أوجه الحياة تراهم يصفقون إذا قام الجميع بذلك، ولا يدخلون مطعما إذا رأوه فارغا من الزبائن، ولا يقتنون من الملابس والأحذية إلا الماركات التي يتهافت عليها الناس تهافت الفراشات على الضوء، إن هذا الوضع هو عبارة عن مرآة للتيار المهيمن الذي يجرف معه الجموع ويمحي الفرد محوا ويلغي بذلك أي تفكير شخصي له، ويفسر إلى حد كبير آلية التأثير الاجتماعي على الفرد ووضعه في زاوية حرجة والضغط عليه أمام الملأ حتى يصطف مع القطيع.
إن أخطر فخ للفكر النقدي الحر هو التدفق السريع للمعلومات، فالعقل البشري يصبح هشا ضعيفا ولقمة سائغة للذئاب المتربصة به عندما يُفرض عليه أن يفهم بسرعة قصوى للكم الهائل من المعلومات الذي يُغرقه، وحتى من دون صوت فإن الصورة تختزل بداخلها معاني لا يمكن لغير صانعيها والمتعودين على فك الرموز من تشريحها، فهي تظهر غالبا على شكل تجميعات غير واعية تستقر في لاشعور المتلقي الذي يستهلك بدون تمييز للغث من السمين وللصالح من الطالح، ولا يمكن في مثل هذه الأحوال التنبؤ بخطورة ونزق ردة فعله.
لقد استطاع الإعلام أن يدمر دولا مثل ليبيا أكثر مما دمرته صواريخ الناتو عن طريق تضخيم وتهويل وتزوير الأحداث، وتضليل على نطاق واسع للكثير من الناس المساكين المستسلمين لمادة إعلامية دسمة متواصلة ومتواترة أربعة وعشرين ساعة على أربعة وعشرين، لم تترك لهم أي مجال كي تشتغل وتنير عقولهم ولو لدقيقة واحدة، وتركت شعب ليبيا المغلوب على أمره مثل عنزة السيد 'سيغان' في غابة الذئاب المظلمة كي تجهز عليها وتقتسمها فيما بينها فريسة مع انبلاج فجر التواطؤ والعمالة والخيانة، وهو نفس الإعلام الذي دمر تدميرا خطيرا اقتصاديات الكثير من الدول العربية التي انزلقت انزلاقا نزقا مع موضة الخريف العربي الظلامي الذي حطم اللحمة الوطنية لمكونات أطيافها وطوائفها وقبائلها لدرجة أن معظمها يقف الآن على أبواب جهنمية لحروب أهلية وقبلية وطائفية قد تؤدي إلى تفتيتها وتقسيمها وتحويلها إلى دويلات قزمية لا قوة ولا حيلة لها أمام مصاصي البترول والغاز والدماء، وهو نفس الإعلام الذي أشعل نيرانا كنيران نيرون في سوريا، وما انفك يحرض على الفتنة والاقتتال وبجميع الوسائل الخسيسة والمنحطة والبعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحة ولو قال وعاظ السلاطين عكس ذلك، لأن هؤلاء المتملقين لأولياء نعمتهم أضحوا بكل صراحة كالمنجمين كاذبين حتى ولو صدقوا.
من هنا تبدو الحاجة في التشكيك في أي خبر ضرورة ملحة من دون طرح عدة تساؤلات عن مصدره أولا وعن كيفية صناعته وماهية العناصر التي اعتمد عليها وما هي الأهداف المبتغاة والمسطرة من طرف صانعيه ومنتجيه ومروجيه، ومن الأجدر والأفضل للمرء عوض أن يحاول فهم كل شيء أن يكتفي بطرح تساؤلات عما رأى وقرأ وسمع حتى ولو كان قليلا، ثم يتريث ويبحث ويتقصي فيه أين يقع مكمن الضعف والعيب والخطأ والصواب باستخدام فكره النقدي مع استعمال تقنية تقاطع المعلومات، قد يخسر المرء في الكم المعلوماتي لكنه لا ريب سوف يخرج رابحا في الكيف ويحصل على صورة نسبيا قريبة من الواقع بعيدا عن وسائل الإعلام التي هي في أغلبها مضللة وكاذبة طالما أتحفت النظارة الكِرَام أو العَرّام فالأمر سيان بأفلام بالصوت والصورة من قبيل 'الـحَوْلِي بَقْرُونُو سَايَقْ الرُّونُو' في عز الظهيرة الأحمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق