دستور إبليس

دستور إبليس
كثيرة هي الدساتير المكتوبة ومتنوعة تنوع الجنس البشري، ويعتقد الكثير من الخلق بأنها متفق عليها من طرف الأغلبية أو الغالبين المنتصرين بصريح العبارة الذين يأخذون بنواصي المستضعفين ويمسحون بهم الأرض، وهي دساتير معتمدة بصفة رسمية بقوة القوانين الجاري بها العمل لأمم وشعوب الكرة الأرضية، دساتير من حبر على ورق تجعل قراءها يحلمون أحلاما وردية ساذجة باقتراب تحقيق مدينة ابن رشد الفاضلة البعيدة المنال، لما تحمل بين طياتها ظاهريا من مثل عليا وتضحية ووطنية وإخلاص ومساواة وطوفان عرمرم من الحقوق المنتفخة مثل البرقوق، غير أنه في المقابل هنالك دستور وحيد غير مكتوب متداول مجانا ومنتشر بصفة وبائية بين كل البشر إسمه 'دستور إبليس'، غالبا ما يحل محل الدساتير المتفق عليها والمعتمدة، فيخلو له الجو عند غياب الوازع الديني أو الضمير ليتفنن بعد ذلك في الاستهثار بكل فصول هذه الدساتير والاستهزاء والاستهثار بنصوصها واستلاب عقول حتى واضعيها وإغوائهم إغواء الشيخ المحروم أمام غانية متصابية. 
هذا هو موضوع هذه المقالة أو الخاطرة بصحيح العبارة التي يقدمها لنا العالم السوري مصطفى السباعي رحمه الله في حلة فكرية قشيبة وهادفة وعالية الإتقان تحت عنوان "شيطان يتظلم"، وهي خاطرة صادحة مدوية مباشرة بدون لف ولا دوران في وجه النفاق السياسي الخطير  والاجتماعي، خاصة النفاق الديني الذي لا نظير له عند الشعوب المغيبة العقول، التي يكثر فيها الوعظ والإرشاد والتحلي بالفضيلة لدرجة أن العكس هو الذي يحدث فينقلب فيها كل شيء  رأسا على عقب:
تعرض شيطان إسمه (أخضر عش) يوما لمتصوف جاهل يتعاطى الوعظ فقال له: لماذا لا تتعلم الدين وتنشر سيرة العلماء وتنشر في الناس الحلال والحرام وتفتيهم في شؤون دينهم عن هُدى وبصيرة؟
قال المتصوف: اغرب عليك لعنة الله ! أتظن أني أُخدَعُ بك؟ لو كان من طبيعتك النصح لما كنت شيطانا، إنما تريد بدعوتي للعلم أن أنصرف عن ذكر الله ! لا أفعل !
قال الشيطان: فهل لك في كلمة حق عند سلطان جائر فيكون لك أجر المجاهدين؟
قال المتصوف: اخسأ عليك غضب الله ! أتريد أن تعرضني لعداوتهم فأُسجن وأُحارب فيُحرَم الناس من وعظي وإرشادي؟
قال الشيطان: إما لا هذه ولا تلك، فلماذا لا تجمع المال لتحفظ به كرامتك، وتدخره لفقير محتاج أو مريد منقطع أو جامع يُبنى أو خير تسهم فيه؟
قال المتصوف متلمظا: أما هذه فنعم، قاتلك الله ! فأين أجد المال؟
قال الشيطان: ما رأيت والله أحمق منك ! ألا ترى إلى مُريديك، تحفظ لهم آخرتهم أفلا يحفظون لك دُنياك؟ وتعمر لهم قلوبهم أفلا يعمرون لك جيبك؟ وتُحيي لهم أرواحهم أفلا يحيون لك بيتك؟
ومد المتصوف الجاهل يده إلى جيوب مُريديه فأفرغها في جيبه، وكانت من الكثرة بحيث تفيض عن حاجة يومه وغده ، وكان من الكذب في دينه بحيث لا يفكر في إنفاقها في سبيل الله، فحار ماذا يصنع بها، فاستشار الشيطان فقال له: إنك إن أبقيت المال في خزانتك لم تأمن عليه لص ينتهبه أو جائحة تذهب به أو ولد صالح يلطشه (1) فأين أنت من شراء الأراضي والمزارع؟
فقال المتصوف: قاتلك الله لقد نصحتني، واقتنى الضياع واحدة بعد الأخرى، ولكن أمره انكشف بين الناس، وماله المجموع من السحت والنصب والتسول ما زال يتزايد يوما بعد يوم، فلجأ إلى صديقه الشيطان يستشيره، فقال له: وأين أنت من شراء السيارات وبناء الدور وعمارة القصور؟
قال المتصوف: ولكنني أخشى أن يفتضح أيضا.
قال الشيطان: لا أصلحك الله ! أتعجز عن تسجيلها باسم زوجتك وأولادك وهم كثيرون؟
وفعل المتصوف ذلك، غير أن المال ما زال يتدفق على جيب الشيخ الجاهل الواعظ، وأخذ يفتش عن أستاذه الشيطان ليستشيره فيما يفعل، ولكن أستاذه كان قد غاظه من تلميذه مزاحمته له في مهنة الخداع ووسوسة الشر، فقرر الدعوة إلى مؤتمر غير عادي للشياطين ليرفع إليهم أمر هذا التلميذ المزاحم، وانعقد المؤتمر برئاسة إبليس، فوقف الشيطان يشرح قصته ويقول: لقد كان الْمُدّعَى عليه جاهلا فمسخته ببراعتي وكيدي إلى شيطان ذكي، وكنت أنتظر منه أن يعرف لي فضلي فلا يزاحمني في منطقتي، ولكنه أخذ يزاحمني مزاحمة خشيت منها على زبائني من التحول جميعهم إليه، فقد أخذ يسلك لإغوائهم من الطرق ما لا أعرف، فاجتذب من الزبائن ما لم أكن أطمع في تعاملهم معي، لقد كنت أغوي الناس بالخمرة والمرأة واللذة والقمار والثروة وغير ذلك، فلم يستمع إلي من بغّضت إليه هذه اللذائذ كلها، أما هذا التلميذ العاق فقد أخذ يخدع الناس باسم الدين والزهد والفضيلة حتى أغواهم وأوقعهم في الجهل والخرافة ومحاربة الدين وعلمائه، وأنتم تعلمون يا حضرات الزملاء أن ميزة زبائننا الغفلة مع شيء من الذكاء ! فما يكاد الواحد منهم يتعامل معنا قليلا حتى يهديه ذكاؤه إلى خبثنا وسوء طريقتنا فيتركنا، أما هذا التلميذ المخادع فقد استطاع أن يخبل عقول زبائنه بالترهات والخرافات ليتمكن بعد ذلك من استثمارهم فترة أطول مما نستثمر بها زبائننا، فأنا أسألكم باسم حرمة المهنة وبحق غضب الله علينا أن تفصلوا في أمره بما توحي به ضمائركم النجسة! 
ونهض الشيطان التلميذ ليدافع عن نفسه فقال: يا حضرات الزملاء الملعونين! إني وغضب الله علي وعليكم ما خُنت هذه المهنة بعد أن شرفني رئيسنا إبليس بالدخول إلى حظيرة دنسه، وما تنكرت يوما لفضل أستاذي (أخضر عش) علي، ولكني وجدته بعد التجربة قليل الحيلة ضعيف الذكاء، وتعلمون أن أحدنا كلما كان أبرع في اقتناص الفريسة والفرصة كان أقرب إلى نفس رئيسنا إبليس أخزانا الله وإياه، ولقد استطعت بوسائل الخداع التي أُلْهِمْتُها من حظيرة الدنس أن أجتذب من الزبائن في محيط أستاذي في سنوات ما لم يستطع أن يجتذبه في مئات السنين.
إننا حضرات السادة الملعونين في عصر استيقظت فيه روح الدين والهداية في نفوس الناس، فيجب أن نطور وسائل الضلال والغواية بما يتفق مع هذا التطور الخطير، وإذا ظللنا على أساليبنا القديمة فسيخسر رئيسنا إبليس أخزانا الله وإياه عرشه ومملكته، ولا يخفى عليكم أن وسيلتي التي أتّبعُها نَفّرَت كثيرا من الدين بما ألصقته به من خرافات وأباطيل وما اتبعته مع الناس من كذب واحتيال وتدجيل، وكان من نتيجة ذلك أن تشكك كثير من الناس بحقائق الدين الصافية ودعاته الصادقين وعلمائه المخلصين، مما جعلهم متهيئين ليكونوا من فرائس أستاذي وزبائنه، كما أن هؤلاء جعلوا يصبون اللعنات علي بدلا من أستاذي كما كان الأمر من قبل.
ومن هنا ترون يا حضرات الزملاء الملعونين أنني أستحق شكر أستاذي لو كان مخلصا لمهنته، لكن أنانيته وطمعه واستئثاره جعلته يستعديكم علي، وأخشى أن يكون أستاذي قد أصابته عدوى الهداية فَقَلَّتْ فيه روح الشيطنة وخبثها، فلم يعد يصلح للمهنة، أما أنا فسأظل أخاكم المخلص وزميلكم النجيب! 
وهنا تداول المؤتمرون القضية من جميع نواحيها، ثم أعلن إبليس قرار المؤتمر التالي:
لما كان من وقائع الدعوى وباعتراف المدَّعِي (أخضر عش) بأن المدّعَى عليه قد أصبح بارعا في مهنة الشيطنة خبيرا بأساليب الضلالة والإغواء،
ولما كان الثابت من وقائع الدعوى وباعتراف المدَعِي أيضا أن زبائننا قد تضاعفوا بفضل المدّعَى عليه أضعافا مضاعفة عما كانوا عليه في عهد المدََعِي،
ولما كانت المادة الأولى من دستورنا وهي تقول: "كل من استطاع الإغواء والإضلال يعتبر شيطانا" تنطبق على المدَّعَى عليه تماما،
ولما كانت المادة الخامسة من هذا الدستور قد نصت على الشروط المطلوبة من التلميذ لمنحه لقب أستاذ،
ولما كانت روح الشر المتأصلة فينا تقتضينا أن نعمل جاهدين لنشر الضلالة والفساد بين بني الإنسان وأن نفرح لذلك ونشجع عليه،
ولما كان من الثابت أن المدَّعَى عليه قد استطاع بفضل وسائله المبتكرة المتطورة أن يزيد في عدد ضحايانا وأن ينشر نفوذنا انتشارا واسعا،
لهذا كله قرر المؤتمر منح لقب أستاذ للمدَّعَى عليه، وتكريس أستاذيته في محفل الشيطان الأعظم، ونقش إسمه في عداد شياطين الإنس الخالدين..
حكماً وجاهياً قابلا للاستئناف..
                                                                                          رئيس المؤتمر صاحب المعالي إبليس  
هوامش:
1: كلمة عامية شامية تعني أخذ الشيء بوقاحة