يبرز التخلف كهدر لقيمة الإنسان، إنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها وقدسيتها والاحترام الجديرة به، فالعالم المتخلف بالمجمل هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، بحيث يتحول فيه الإنسان إلى شيء، إلى أداة أو وسيلة، إلى قيمة مبخسة، فالتخلف بالمنظور النفسي العريض يتجاوز إلى حد بعيد مسألة التكنولوجيا والإنتاج ليتمحور حول قيمة الحياة الإنسانية والكرامة البشرية، وكل هدر لها أو تحويل إلى أداة هو التخلف بعينه، وعالم التخلف هو عالم التسلط واللاديمقراطية، يختل فيه التوازن بين السيد والإنسان المقهور، ويصل هذا الاختلال حدا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها، بحيث تنعدم علاقة التكافؤ كي تقوم مكانها علاقة التشيؤ.
إن إنسان العالم المتخلف منذ أن يُولد يخرج إلى الحياة بشكل اعتباطي، إنه يولد كمصادفة أو عبء أو أداة لخدمة أغراض ورغبات أهله أو الآخرين، والإنسان المتخلف هو في النهاية الإنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذي يتحكم بقُوتِه، أو الموظف الذي يبدو وكأنه يملك العطاء والمنع، أو المستعمر الذي يفرض احتلاله بقوة النار والسلاح.
فكيفما تحرك الإنسان المقهور في العمل كما في المدرسة، في البيت كما في الشارع، يُجَابَهُ باستمرار بأشكال متنوعة من علاقات التسلط والقهر، تُفْقِدُهُ الشعور الأساسي بالأمن والسيطرة على مصيره، وتجعله نهبا للاعتباط والقلق، وكل إنسان راضخ وتابع على أي مستوى من سلم السيطرة والقهر يلعب هو الآخر دور المتسلط على من هم أدنى منه مرتبة أو قوة، وتبعا لذلك يصبح الكذب جزءا أساسيا من نسيج الوجود المتخلف على مختلف الأصعدة وفي كل الظروف، فيصبح الكذب بين المتسلط والإنسان المقهور معمما تعميما كاملا على كل العلاقات: كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقات، كذب في ادعاء القيم السامية، كذب في ادعاء الرجولة، كذب في المعرفة، كذب في الإيمان، كما يكذب المسؤول على 'المواطن'، وكما يكذب رجل الشرطة حين يدعي الحفاظ على القيم والأخلاق والنظام، وكما يكذب الموظف على صاحب الحاجة، وكما يكذب التاجر على المشتري، وكما يكذب الحرفي على الزبون، فمعظم العلاقات زائفة ومعظم الحوار تضليل وخداع، يكفي أن يرى المرء كيف يزين الناس في العالم المتخلف الأمور لبعضهم البعض، حتى يتم استدراج الآخر واستغلاله، وعندما ينجح ذلك الاستدراج يعتبر نوعا من النبوغ والبراعة والكفاءة في التجارة والعمل والوظيفة وممارسة المسؤولية، وعندما يتحول العالم إلى زيف وتضليل، يٌصبح لِزَاماً على كل واحد أن يلعب اللعبة كما تسمح له إمكانياته، والويل ثم الويل لذي النية الطيبة، إذ أنه لا يغرم من خلال استغلاله فقط، بل يُزْدَرَى باعتباره ساذجا وغبيا.
إن مفهوم الاعتداء على القانون في مجتمع القهر غير واضح تماما، فالضوابط الخلقية الداخلية غير فعالة تماما، ليس هناك أخلاق بين الفئات المقهورة، بمعنى الالتزام العلائقي اتجاه الآخر من خلال الاحترام المتبادل والمراعاة المتبادلة، هناك فقط خوف من السلطة وبطشها، لذلك تشيع تصرفات الاحتيال والغش والخداع والاستغلال بقدر ما تسمح به إمكانات التهرب من الملاحقة، ليس هناك مصلحة عامة وتآزر اجتماعي، فكل يتدبر أمره كما يستطيع في غياب الانتماء والالتزام، فإحساس الإنسان في المجتمع المتخلف بأنه متروك ليواجه مصيره دون حماية فعلية أو ضمانة أكيدة للحاضر والمستقبل، يجعله يُجَابِهُ قلق الوحدة والتعرض للخطر بشكل عنيف يؤدي إلى انهيار الانتماء الاجتماعي، وحين تغيب السلطة أو يهزل وجودها أو يتقلص أداؤها، يتحول المجتمع عندها إلى ساحة قتال وصراع على النهب ما أمكن، وبأكبر كمية مُتاحة، والحقيقة هي أن بنية المجتمع المتخلف نفسها تقوم على النهب والاستغلال، ففي الحالات العادية نجد القلة المتسلطة هي التي تمارسه بشكل خفي، تَبْرُزُ منه فُقَاعَاتٌ تطفو على السطح من آن لآخر على شكل فضائح مالية، والحقيقة الثانية هي أن مفهوم القانون الذي يضع الحدود للسلوك، ويفرض مراعاة مصالح الآخرين، مبخس ومشوه في العالم المتخلف، فالقانون لا يُـــفْرَضُ إلا على من لا يمتلك القوة للاعتداء عليه، أو السبيل لذلك الاعتداء، ليس هناك احْتِرَامٌ لِلْقَانُونِ وَتَقَبُّلٌ لَهُ، بل رُضُوخٌ وَإِرْغَامٌ، إِذْ أنّ القاعدة هي أَنْ تخرق القانون إذا استطعت، وفي ذلك كله انهيار لاحترام العلاقات الإنسانية، لأن خرق القانون هو في النهاية اعتداء صارخ على الآخرين، وعلى علاقة المواطنة والانتماء الاجتماعي.
إن التوازن الضروري بين الانفعال والوجدان وبين المنطق والعقل لا يتيسر لإنسان العالم المتخلف لأسباب عديدة أهمها القهر وانعدام الأمن، وطغيان مشاعر الدونية التي تصد الذهن لما تولده من قلق، وإذا زاد هذا القلق عن حد معين، فإنه يشل القدرة على الحكم الموضوعي، كما أن حالة القمع المزمن التي يعيشها الإنسان المتخلف تؤدي إلى تراكم مفرط للانفعالات، وإلى تأجيج للعواطف وتفجير للمشاعر الأكثر عنفا، مما يجعله يبدو مركزا تماما حول ذاته، هذا التركز الذي يبلغ درجة النكوص إلى الأنـــوية (Égocentrisme) في أحيان كثيرة، يؤدي إلى انهيار القدرة على التجريد الذي يشكل أحد أرقى المظاهر الذهنية في التكييف للواقع والسيطرة عليه، ومن المعروف نفسيا أن أكثر الوسائل فعالية وبدائية للتخلص من هذا التوثر هو الإسقاط ((Projection الذي يسمح بتصريف الانفعالات من خلال صبها على الخارج أو على الآخر، على العالم وظواهره وعلى الأشخاص والعلاقات معهم سواءً بسواءٍ، وتنتج عن هذه الحالة عدة ظواهر كثيرة الشيوع في العالم المتخلف، أبرزها سرعة تدهور الحوار العقلاني، والتفكير المنطقي، والتعصب والتحيز، وسرعة إطلاق الأحكام القطعية والأحكام المسبقة، وسيطرة التفكير الخرافي والسحري، فالحوار أو النقاش الذي يبدأ موضوعيا واقعيا لا يلبث أن يفجر انفعالات تؤدي إلى اضطرابه، فيتحول الأمر من الحوار الهادئ، من المنطق الذي يُجَابِهُ الحجة بالحجة إلى صُرَاخٍ وَمُهَاتَرَاتٍ، كي ينزلق بسرعة إلى حوار الطرشان عند أول عقبة مادية أو مقاومة، عند ذلك يتحول النقاش إلى صراخ وخصام يسير تصاعديا نحو مزيد من تدهور العلاقات وانهيار المنطق، فمن الصراخ إلى الشتائم، يسير التدهور بخطى ثابتة نحو اللغة الحركية، لغة القوة والإخضاع بعد أن فشل الإقناع، وذلك هو سبب سرعة الصدام العنيف عند إنسان العالم المتخلف لعدم قدرته على السيطرة على الواقع من خلال العقل والمنطق.
ويتمحور الوجود عند الإنسان المتخلف حول قضايا بسيطة يبدو أنها تكون حياته كلها، مما يجعله يستجيب بشكل مفرط في انفعاليته وحدته، إنه يستجيب لا لهذا الأمر الطارئ أو البسيط، بل يستجيب في الحقيقة لوجوده الذي يعاني من القهر المزمن الذي يتفجر في كل لحظة وعند كل عقبة، وأحكام الإنسان المتخلف على الظواهر والأشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطعية، إنها أحكام متسرعة ونهائية، تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة، سالبة كلها أو إيجابية كلها.
ويتمحور الوجود عند الإنسان المتخلف حول قضايا بسيطة يبدو أنها تكون حياته كلها، مما يجعله يستجيب بشكل مفرط في انفعاليته وحدته، إنه يستجيب لا لهذا الأمر الطارئ أو البسيط، بل يستجيب في الحقيقة لوجوده الذي يعاني من القهر المزمن الذي يتفجر في كل لحظة وعند كل عقبة، وأحكام الإنسان المتخلف على الظواهر والأشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطعية، إنها أحكام متسرعة ونهائية، تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة، سالبة كلها أو إيجابية كلها.
الإنسان في المجتمع المتخلف عدواني متوثر يفتقر إلى العقلانية ويعجز عن الحوار المنطقي، لأنه يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الاعتباطي ومن الإهمال، إنه متروك لنفسه كي يتدبر أمره كما يستطيع، عَالَمُ الإنسان المقهور هو أشبه ما يكون بغابة ذئاب، عليه أن يعبئ نفسه ويظل يقظا طوال الوقت لمجابهة أخطارها، فإذا كان القهر من خلال الإرهاب والقمع هو الحقيقة التي تعشعش في بنية المجتمع المتخلف تنخرها وتلغمها، فإن العنف على مختلف صوره لا بد أن يكون السلوك الأكثر شيوعا حين تسنح الفرص، تلكم هي كارثة الرباط الإنساني طالما لم تتغير العلاقة بأخرى أكثر مساواة تعيد الاعتبار إلى الحاكم والمحكوم.
إن موقف الإنسان المتخلف من وضعية القهر والاعتباط هذه دينامي تاريخيا، فهو يترواح ما بين الرضوخ المستسلم مع ما يرافقه من عقد نقص وعار، ومهانة واستكانة، وفقدان للثقة بالنفس والجماعة، وبين العدوانية المفرطة التي تتخذ شكل علاقات اضطهادية تفرز مناخا عاما من العنف العلائقي، وبين التمرد المتفجر فرديا بشكل عابر، أو جماعيا بشكل يهز بنية المجتمع وقد ينتهي بتغييرها، فوضعية القهر وانعدام الضمانات مع ما تتصف به من هدر جذري لقيمة الإنسان تفجر أكثر أشكال القلق عنفا عند الإنسان المقهور، لأنها تحرك أكثر الدوافع اللاواعية بدائية، والتي ترتبط بقلق الفناء وقلق الخصاء، وهكذا تحاصر الإنسان المقهور من كل جانب قوتان لا قِبَلَ له بمجابهتهما منفردتين فكيف الحال إذا اجتمعتا؟
إن من أهم مميزات العقلية المتخلفة اضطراب منهجية التفكير، والفوضى والعشوائية، وسوء التخطيط والارتجال، مما يوقع الإنسان المتخلف في الغموض والحيرة، ويجعله يلجأ إلى التمنيات بخروج سحري من المأزق، والعقلية المتخلفة تغرق في التخبط عند كل مرحلة من المراحل السابقة، كما تقفز من مرحلة أولية إلى مرحلة نهائية، كي يتضح لها العجز عن متابعة السير، فتعود القهقرى إلى الوراء، وتظل هكذا بين إقدام وإحجام، ولا تستطيع أن ترجح حلا على آخر، وهي وإن فعلت فأغلب الظن نتيجة لتدخل عوامل ذاتية انفعالية أكثر منها مراعاة لاعتبارات منطقية، ومن هناك يُدرك الملاحظ مدى الهدر في الوقت والجهد الذي تتعرض له العقلية المتخلفة، ومدى التذبذب وانعدام اليقين نظرا لافتقار الحلول إلى المتانة المنطقية.
وإذا كان التخبط واعتباطية الالتماس يميزان أسلوب الفئات الغير متعلمة، فإنهما لا يقتصران عليها مطلقا، إنهما على درجة كبيرة من الانتشار بين أغلب فئات المتعلمين، حتى أولئك الحاصلين على الدرجات الجامعية، فعلى المستوى الجامعي يُلاحِظ المرء مدى الصعوبات التي تعترض الطلاب من الناحية المنهجية، هناك عجز شبه تام عن اتباع المنهج المنطقي في عرض الأمور، ذلك هو السبب المباشر لفشل نسبة هامة من الطلاب في الامتحانات، رغم حفظهم المادة عن ظهر قلب، إنهم لا يعرفون ماذا يختارون للإجابة، ولا يعرفون كيف يعرضون المادة المختارة، مما يجعل إجاباتهم أقرب إلى تداعي الأفكار منها إلى عرض منظم للموضوع، وتبلغ هذه الصعوبة أقصى درجاتها حدة في الدراسات العليا، إذ أن العجز المنهجي هو العقبة الأساسية التي يصطدم بها الراغب في القيام ببحث علمي، ويبدو القصور مذهلا على هذا المستوى.
إن الإنسان المتخلف يظل على مستوى الملاحظة الساذجة والانطباعات الأولية، مما يدفع به إلى الاكتفاء بالمعرفة الحدسية التي لا تذهب بعيدا في البحث العلمي، وهكذا يظل على السطح لا يمسك من الظواهر إلا جوانبها الخارجية، والخطر كل الخطر هو الاكتفاء بالمستويات الخارجية، التي تشكل عادة قناعا يخفي الحقيقة بقدر ما يعبر عنها، وخطر هذا الموقف المتسرع يكمن في إطلاق الأحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل، فالحقيقة نسبية دائما وقيمتها رهن بالمستوى التحليلي الذي بُنِيَتْ على أساسه، وكل حقيقة تخفي وراءها أخرى أكثر محورية منها، كل حقيقة هي بهذا المعنى قناع من المفروض تجاوزه عمقا واتساعا إذا أردنا الارتقاء بالمعرفة الإنسانية للوجود.
بالإضافة إلى قصور عملية التحليل والتوليف (synthèse)، وقصور التفكير النقذي، يتسم الذهن المتخلف بانعدام المثابرة، فالتركيز على أمر ما محدود زمنيا، سرعان ما يُداخِلُهُ التعب والتشتت، ينطلق بحماس كبير لكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها التي بدأ فيها، إن حماسه والتزامه بلا غد، ولذلك تكاد الخطط البعيدة المدى تصبح مستحيلة، إنه بحاجة إلى نتائج آنية وشبه سحرية، ولا قدرة له على الجهد الطويل النفس المركز حول المسألة نفسها، لهذا يصعب على الإنسان المتخلف أن يكون باحثا متخصصا، لأن البحث يحتاج إلى جهد دؤوب ومثابرة تتغلب على صعوبات البداية، وصعوبات ومَلَلِ مرحلة الإعداد والاختمار قبل الوصول إلى النتائج، وهكذا يظل الطابع السائد في المجتمع المتخلف لمواجهة الأمور هو طابع تدبير الحال، طابع البحث عن الحلول الآنية والمناسباتية التي تحمل إمكانات النجاح السريع.
من السمات البارزة للعقلية المتخلفة انعدام الدقة والانضباط والضبط في التصدي للواقع وفي تقدير الأمور، كل شيء يظل على مستوى التقدير الإجمالي والانطباع العام، فلا مجال للدقة الرياضية لأن كل شيء عُرضة للتهاون والتراخي والتساهل لدرجة الاستهتار، ونلحظ ذلك في مختلف أشكال الالتزام اتجاه الآخرين: الالتزام بالواجبات، الالتزام بالمسؤوليات، الالتزام بالتعهدات التي قطعها الإنسان على نفسه، الالتزام بدقة المواعيد، لأن العالم المتخلف يطفو على سطح الظواهر ويكتفي بعموميتها، كل شيء يعمل 'بِالْبَرَكَةِ' كيفما اتفق، من تصليح الآلات إلى تنفيذ المهمات إلى مسائل الإنتاج ووضع خطط مـختلف المشاريع، إن مقدار الدقة والضبط في التعامل مع الواقع والآخرين، يدل على مدى السيطرة على الوجود ومدى تنسيقها تحديد المسؤوليات والالتزامات، فلا غرابة إذاً في فقدان العقلية المتخلفة للضبط والانضباط والدقة.
فالإنسان المتخلف ينظر إلى الواقع بشكل تجزيئي زمانيا ومكانيا، يعجز عن النظر أبعد من دائرة ضيقة، هي حدود محيطه المباشر، إنه عاجز عن الشمول، وعن استشفاف آفاق بعيدة عن وضع خصائص المحيط المباشر في إطار أكثر اتساعا وعمومية، ويؤدي انحسار المجال الحيوي على هذا الشكل إلى تضخيم الأمور حتى التافهة منها، بحيث تأخذ القضايا البسيطة أبعادا مفرطة في حدتها، لدرجة تطمس معها رؤية ما عداها واستشفاف ما يتجاوزها، وعندما توضع الخطط فغالبا ما توضع لإيهام الجمهور أو ما يسمون ب'المواطنين' بمستقبل يضع حدا لآلامهم ومحنهم وشقائهم، بينما هي في حقيقة الأمر ليست إلا نوعا من الإلهاء لامتصاص نقمتهم، إن هذه القضايا البسيطة تطغى على وجود الإنسان المتخلف لدرجة أنها تشكل محوره، فالظواهر المحلية عندما توضع في إطار أعم وأشمل تأخذ حجمها الطبيعي ضمن نظام عام من القوى، مما يسمح بسيطرة أكبر على الواقع، إن السيطرة على المصير رَهْنٌ في النهاية بمدى شمولية النظرة زمانيا ومكانيا، بذلك يحتل العقل دوره الحقيقي في توجيه الحياة، وبذلك ينحسر طغيان الانفعالات وما يرافقها من نكوص، والأمر هنا لا يقتصر فقط على المستوى الفردي في المجتمعات المتخلفة، بل حتى التخطيط الرسمي للدولة المتخلفة يشكو من جزئية النظرة ومحدوديتها، فهناك مشاريع كثيرة تُصرف عليها الأموال الطائلة، غير أنها تظل مشاريع معزولة أو قطاعية، لا تدخل ضمن تخطيط شامل، ولا تُدْرَسُ بشكل مُسْتَوْفٍ وعميق أبعادها ونتائجها، انطلاقا من حالة مختلف قطاعات المجتمع.
فالتصنيع مثلا يتخذ في الكثير من الأحيان شكل المشاريع الرائدة، أو الـمُجَمَّعَاتِ الكبرى، أو جزر الصناعات الثقيلة، دون إعداد كاف وتخطيط مُسْتَفِيضٍ، وبالتالي تقع هذه المشاريع في مآزق متعددة بعد فترة قصيرة من الزمن، مثل فقدان الأطر الفنية، فقدان القدرة على الصيانة، فقدان التبصر بتأثيرها على التوازن الاجتماعي والسكاني والسلوكي، يُضَافُ إلى ذلك فقدان القدرة على تطوير هذه المشاريع، مما يجعلها تقع ضحية للسكونية فتصبح قديمة ومتصلبة سرعان ما يتجاوزها التجديد المتصاعد في الدول الصناعية، وهكذا تتحول هذه المشاريع في بعض الحالات إلى نوع من هدر الثروة الوطنية دون أن تؤدي إلى التطوير الاجتماعي الـمُرْتَجَى.
وهذا الهدر ليس غريبا في الواقع على جشع أوساط المال والصناعة في البلدان المتقدمة، تلك الأوساط التي لا تفكر إلا باصطياد فرص الربح الأكبر والأسرع التي توفرها البلدان المتخلفة، وهكذا تزين هذه الأوساط من خلال الخبراء، الذين يبدون 'أكفاء' و'عقلانيين' و'محايدين'، مشاريع ضخمة تُدَغْدِغُ نَرْجِسِيَّةَ الحُكَّامِ وحاجتهم إلى الشعور بالعظمة من خلال المظاهر الدعائية الطنانة، فَتُقَامُ هذه المشاريع التي تُصَوَّرُ كمفخرة وطنية في إطار عام متخلف عاجز عن استيعابها والاستفادة منها بالشكل المرجو، وإذا بالعقبات الإنتاجية تبرز تِبَاعاً بعد فترة ليست بالطويلة، ولا يُسْتَبْعَدُ أن يأتي خبراء غربيون آخرون ليكتشفوا أخطاء فادحة في إنشائها، ولا يُسْتَبْعَدُ أن يقرروا عدم ملاءمتها أصلا لذلك المجتمع، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات بإلغائها أو بتجميدها، والأمر الأكيد أنها ليست مطلقا مسألة مصادفة أن لا تحدث اكتشافات أكثر مأساوية بهذا الشكل إلا في المشاريع الدعائية الطنانة التي لا تُقَامُ إلا في الدول المتخلفة.
فالتصنيع مثلا يتخذ في الكثير من الأحيان شكل المشاريع الرائدة، أو الـمُجَمَّعَاتِ الكبرى، أو جزر الصناعات الثقيلة، دون إعداد كاف وتخطيط مُسْتَفِيضٍ، وبالتالي تقع هذه المشاريع في مآزق متعددة بعد فترة قصيرة من الزمن، مثل فقدان الأطر الفنية، فقدان القدرة على الصيانة، فقدان التبصر بتأثيرها على التوازن الاجتماعي والسكاني والسلوكي، يُضَافُ إلى ذلك فقدان القدرة على تطوير هذه المشاريع، مما يجعلها تقع ضحية للسكونية فتصبح قديمة ومتصلبة سرعان ما يتجاوزها التجديد المتصاعد في الدول الصناعية، وهكذا تتحول هذه المشاريع في بعض الحالات إلى نوع من هدر الثروة الوطنية دون أن تؤدي إلى التطوير الاجتماعي الـمُرْتَجَى.
وهذا الهدر ليس غريبا في الواقع على جشع أوساط المال والصناعة في البلدان المتقدمة، تلك الأوساط التي لا تفكر إلا باصطياد فرص الربح الأكبر والأسرع التي توفرها البلدان المتخلفة، وهكذا تزين هذه الأوساط من خلال الخبراء، الذين يبدون 'أكفاء' و'عقلانيين' و'محايدين'، مشاريع ضخمة تُدَغْدِغُ نَرْجِسِيَّةَ الحُكَّامِ وحاجتهم إلى الشعور بالعظمة من خلال المظاهر الدعائية الطنانة، فَتُقَامُ هذه المشاريع التي تُصَوَّرُ كمفخرة وطنية في إطار عام متخلف عاجز عن استيعابها والاستفادة منها بالشكل المرجو، وإذا بالعقبات الإنتاجية تبرز تِبَاعاً بعد فترة ليست بالطويلة، ولا يُسْتَبْعَدُ أن يأتي خبراء غربيون آخرون ليكتشفوا أخطاء فادحة في إنشائها، ولا يُسْتَبْعَدُ أن يقرروا عدم ملاءمتها أصلا لذلك المجتمع، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات بإلغائها أو بتجميدها، والأمر الأكيد أنها ليست مطلقا مسألة مصادفة أن لا تحدث اكتشافات أكثر مأساوية بهذا الشكل إلا في المشاريع الدعائية الطنانة التي لا تُقَامُ إلا في الدول المتخلفة.
إن لب تخلف العقلية يكمن في أسباب اجتماعية وسياسية هي المسؤولة عن نمط الإنتاج وأدواته وتقنياته وانعكاساتها على الذهنية، هذه الأسباب في الوطن العربي على الأقل تكمن في سياسة التعليم في المجتمع، وعلاقات التسلط والقهر السائدة فيه، فالعلم لايشكل بالنسبة للعقلية المتخلفة أكثر من قشرة خارجية رقيقة يمكن أن تتساقط إذا تعرض هذا العقل للاهتزاز، إن العلم ما زال في ممارسة الكثيرين لا يعدو أن يكون قميصا أو معطفا يلبسه حين يقرأ كتابا أو يدخل مختبرا أو يلقي محاضرة، ويخلعه في سائر الأوقات، هنالك إذاً نوع من الإزدواجية في شخصية الإنسان المتخلف، بين دور التعليم ودور الإنسان الممارس حياتيا.
ومن مشكلات التعليم الشائعة في البلدان المتخلفة، الانفصام الحاصل بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية أي دراسة العلوم المضبوطة بلغة أجنبية، بحيث يظل غالبية الطلاب ماعدا أبناء القلة ذات الحظوة، عاجزين عن التعامل بها، ولا يمتلكونها إلا بشكل ناقص جدا، فالعلم كاللغة الأجنبية التي ندرسهم بها، يظل غريبا عن عالمهم وواقعهم، يشكل في أحسن الأحوال قشرة خارجية لا تتجاوز السطح، فاللغة تشكل الذهن وتحدد النظرة إلى الوجود، وبدون تدريس العلوم باللغة الأم سوف يستمر الانشطار الحاصل بين العلم والحياة وبالتالي ترسيخ استمرارية التخلف الذهني عند القطاع الأكبر من المواطنين.
ومن مشكلات التعليم الشائعة في البلدان المتخلفة، الانفصام الحاصل بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية أي دراسة العلوم المضبوطة بلغة أجنبية، بحيث يظل غالبية الطلاب ماعدا أبناء القلة ذات الحظوة، عاجزين عن التعامل بها، ولا يمتلكونها إلا بشكل ناقص جدا، فالعلم كاللغة الأجنبية التي ندرسهم بها، يظل غريبا عن عالمهم وواقعهم، يشكل في أحسن الأحوال قشرة خارجية لا تتجاوز السطح، فاللغة تشكل الذهن وتحدد النظرة إلى الوجود، وبدون تدريس العلوم باللغة الأم سوف يستمر الانشطار الحاصل بين العلم والحياة وبالتالي ترسيخ استمرارية التخلف الذهني عند القطاع الأكبر من المواطنين.
المدون بتصرف عن' التخلف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور' لمصطفى حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق