إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَى الْقُلُوبِ وَجَدْتَهَا قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُسُومِ الأَصَادِقِ

إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَى الْقُلُوبِ وَجَدْتَهَا قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُسُومِ الأَصَادِقِ
كان بمصر رجل يُعرف بالحسن بن عمر الأجهري يقول الشعر الضعيف، وكان ناقص العقل، فقيل له: إن أردت أن يعلو شأنك في الشعر فاهج أبا نواس، فأتاه وهو جالس في المجلس والناس حوله فتجرأ عليه وهجاه:
أَلاَ قُلْ للِنُّوَاسِي الضَّـ     ـعِيفِ الْحَالِ  وَالْقَدْرِ
خُبِّرْنَا   مِنْكَ  أَحْوَالاً     فَلَمْ  نَحْمَدْكَ فِي الْخَبَرِ
وَمَا روّعْتَ  بِالْمَنْظَ     ـرِ وَلَكِنْ رُعْتَ بِالْكَدَرِ
وكان هذا الشاعر الذي هجا أبا نواس من أوحش الناس صورة، فنظر إليه أبو نواس وقال: بم أهجوك وبأي شيء أصفك وقد سبقني الله تعالى إلى توحش منظرك وتقبيح مخبرك؟ وهل أكون إن قلت شيئاً إلا سارقاً من ربي ومتكلفاً على ما قد كفاني؟ فقال له بعض من معه: اهجه حتى لا نقول إنه أفحمك، فقال أبو نواس من وزن شعره:
بِمَ   أَهْجُوكَ  لاَ   أَدْرِي      لِسَانِي   فِيكَ  لاَ يَجْرِي
إِذَا  فَكَّرْتُ فِي  عِرْضِـ      ـكَ أَشْفَقْتُ  عَلَى شِعْرِي
قالت بنو تميم ما هُجينا بشيء هو أشد علينا من هجاء الأخطل لجرير، وهو يتضمن وجوها شتى للإهانة، جعلت منهم بخلاء بالقرى، وجعلت أمهم خادمتهم، يأمرونها بكشف فرجها كي تطفئ النار ببولها لبخلهم بالماء، غير أنها حتى وهي في بولتها كانت بخيلة:
مَا زَالَ فِينَا  رِبَاطُ  الْخَيْلِ  مَعْلَمَةً       وَفِي  كُلَيْبٍ  رِبَاطُ  اللُّؤْمِ  وَالْعَارِ
قَوْمٌ إِذَا اسْتَنْبَحَ الأَضْيَافَ  كَلْبُهُمُ       قَالُوا   لِأُمِّهُمُ   بُولِي   عَلَى  النَّارِ
فَتُمسِكُ الْبَوْلَ بُخْلاً أَنْ تَجُودَ بِهِ       فَمَا    تَبُولُ   لَهُمْ   إِلاَّ    بِمِقْدَارِ
وها هو ذا الشاعر والأديب البليغ أبو إسحاق الصابي يصف وصفا غارقا في السخرية أبخرا (كريه رائحة الفم):
مَضَغَ الْهِنْدِيُّ  لِلْهِرَّ       ةِ   خُبْزاً    فَرَمَاهَا
فَدَنَتْ مِنْهُ  فَشَمَّتْـ       ـهُ  فَظَنَّتْهُ  خَرَاهَا
فَحَثَتْ  تُرْباً  عَلَيْهِ       ثُمَّ    وَلَّتْهُ    قَفَاهَا
وقال ابن المعتز في هجوه معلما بطريقة تهكمية:
وَكَيْفَ يُرْجَى العَقْلُ وَالفَضْلُ عِنْدَ مَنْ       يَرُوحُ  إِلَى  أُنْثَى   وَيَغْدُو  إِلَى  طِفْلِ
ومن أحسن ما قيل في مدح الصحة وذم المرض قول بشار بن برد:
إِنِّي وَإِنْ كَانَ جَمْعُ  الْمَالِ يُعْجِبُنِي      فَلَيْسَ يَعْدِلُ عِنْدِي صِحَّةَ  الْجَسَدِ
فِي الْمَالِ زِينٌ وَفِي الأَوْلاَدِ مَكْرَمَةٌ      وَالسُّقْمُ يُنْسِيكَ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ
من أجود ما قيل في المراثي قول ابن المعتز:
قَدِ اسْتَوَى النَّاسُ وَمَاتَ  الكَمَالُ       وَقَالَ  صَرْفُ  الدَّهْرِ أَيْنَ الرِّجَالُ
هَذَا   أَبُو   الْقَاسِمِ   فِي   نَعْشِهِ       قُومُوا انْظُرُوا كَيْفَ تَزُولُ  الجِبَالُ
وعن الصحة والعافية يقول عنترة بن شداد:
الْمَالُ    لِلْمَرْءِ   فِي   مَعِيشَتِهِ      خَيْرٌ   مِنَ   الْوَالِدَيْنِ   وَالْوَلَدِ
وَإِنْ   تَدُمْ   نِعْمَةٌ  عَلَيْهِ  تَجِدْ      خَيْراً مِنَ الْمَالِ صِحَّةُ الْجَسَدِ
وقال بعض الشعراء في خلق الحياء:
وَرُبَّ  قَبِيحَةٍ  مَا  حَالَ بَيْنِي       وَبَيْنَ   رُكُوبِهَا  إِلاَّ  الْحَيَاءُ
إِذَا رُزِقَ الفَتَى وَجْهاً وَقَّاحاً       تَقَلَّبَ فِي الأُمُورِ كَمَا يَشَاءُ
وقال الشريف الرضيّ في ذم الأخلاق السيئة:
وَأَكْثَرُ   مَنْ   شَاوَرْتُهُ   غَيْرُ   حَازِمِ      وَأَكْثَرُ   مَنْ  صَاحَبْتُ غَيْرُ  الْمُوَافِقِ
إِذَا  أَنْتَ  فَتَّشْتَ  الْقُلُوبَ  وَجَدْتَهَا      قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُسُومِ الأَصَادِقِ
رَمَى اللهُ بِي مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ غَيْرَهَا       وَقَطَّعَ   مِنْ   هَذَا   الأَنَامِ   عَلاَئِقِي
يَظُنُّونَ  أَنَّ  الْمَجْدَ  مِمَّنْ  لَهُ الْغِنَى       وَأَنَّ  جَمِيعَ  الْعِلْمِ   فَضْلُ  التَّشَادُقِ
وقال المقنع الكندي في الجود والكرم:
لَيْسَ العَطَاءُ مِنَ الفَضُولِ سَمَاحَةٌ     حَتَّى  تَجُودَ   وَمَا  لَدَيْكَ  قَلِيلُ
وعن المذلة أنشد فأجاد الشريف الرضي:
لِلذُلِّ   بَيْنَ    الأَقْرَبِينَ   مَضَاضَةٌ       وَالذُلُّ  مَا  بَيْنَ   الأَبَاعِدِ  أَرْوَحُ
وَإِذَا رَمَتْكَ مِنَ  الرِّجَالِ  قَوَارِصٌ       فَسِهَامُ ذِي القُرْبَى القَرِيبَةِ أَجْرَحُ
وعن اغترار البشر بمتاع الدنيا قال أحمد شوقي:
وَكُلُّ بِسَاطِ عَيْشٍ سَوْفَ يُطْوَى        وَإِنْ   طَالَ   الزَّمَانُ   بِهِ  وَطَابَا
وَلاَ   يُنْبِيكَ  عَنْ  خُلُقِ   اللّيَالِي       كَمَنْ   فَقَدَ  الأَحِبَّةَ    وَالصِّحَابَا
أَخَا  الدُّنْيَا   أَرَى  دُنْيَاكَ   أَفْعَى       تُبَدِّلُ     كُلَّ     آوِنَةٍ      إِهَابَا
وَأَنَّ   الرُّقَطَ   أَيْقَظُ   هَاجِعاتٍ       وَأَتْرَعُ  فِي  ظِلاَلِ   السِّلْمِ   نَابَا
وَمِنْ  عَجَبٍ  تُشَيِّبُ  عَاشِقِيهَا        وَتُفنِيهِمْ   وَمَا   بَرِحَتْ   كِعَابَا
فَمَنْ     يَغْتَرُّ    بِالدُّنْيَا    فَإِنّي        لََبِسْتُ    بِهَا    فَأَبْلَيْتُ   الثِّيَابَا
لَهَا  ضَحِكُ  القِيانِ  إِلَى  غَبِيٍّ        وَلِي  ضَحِكُ  اللَّبِيبِ  إِذَا تَغَابَى
جَنَيْتُ بِرَوْضِهَا  وَرْداً وَشَوْكاً        وَذُقْتُ  بِكَأْسِهَا  شُهْداً  وِصَابَا
فَلَمْ  أَرَ  غَيْرَ حُكْمِ اللَّهِ حُكْماً        وَلَم  أَرَ   دُونَ  بَابِ  اللَّهِ  بَابَا
وَلاَ  عَظَّمْتُ  فِي  الأَشْيَاءِ  إِلّا        صََحِيحَ  العِلْمِ  وَالأَدَبِ  اللُّبَابَا
وَلاَ   كَرَّمتُ   إِلّا  وََجْهَ  حُرٍّ        يُقَلِّدُ    قَوْمَهُ   الْمِنَنَ    الرّغَابَا
وَلَم أَرَ مِثْلَ جَمْعِ الْمَالِ  دَاءً        وَلاَ  مِثْلَ  البَخِيلِ   بِهِ   مُصَابَا
فَلا  تَقتُلْكَ   شَهْوَتُهُ   وَزِنْهَا        كَمَا  تَزِنُ   الطَّعامَ  أَوِ  الشَّرَابَا
وَخُذ  لِبَنِيكَ  وَالأَيَّامِ   ذُخْراً        وَأَعْطِ   اللَّهَ   حِصَّتَهُ  احْتِسَابَا
وعن زخارف الدنيا وأبهتها الفارغة يقول الشافعي:
إِنَّ    لِلَّهِ    عِبَاداً    فُطَنَا      تَرَكُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا
نَظَرُوا  فِيهَا  فَلَمَّا  عَلِمُوا       أَنَّهَا  لَيْسَتْ  لِحَيٍّ  وَطَنَا
جَعَلُوهَا   لُجَّةً  وَاتَّخَذُوا       صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا
وعن القناعة قال الطغرائي:
يَا  وَارِداً  سُؤْرَ  عَيْشٍ  كُلُّهُ كَدَرٌ      أَنْفَقْتَ  عُمْرَكَ  فِي  أَيَّامِكَ الأُوَّلِ
فِيمَ  اعْتِرَاضُكَ  لُجَّ الْبَحْرِ  تَرْكَبُهُ      وَأَنْتَ  تَكْفِيكَ  مِنْهُ  مَصَّةُ  الوَشَلِ
مُلْكُ القَنَاعَةِ لاَ يُخْشَى عَلَيْهِ  وَلاَ      يُحْتَاجُ  فِيهِ  إِلَى  الأَنْصَارِ وَالْخَوَلِ
أما أبو منصور الثعالبي النيسابوري فيقول في القناعة:
هِيَ  الْقَنَاعَةُ  فَالْزَمْهَا  تَعِشْ  مَلِكاً       لَوْ  لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إلاَّ  رَاحَةَ البَدَنِ
وَانْظُرْ إِلَى مَالِكِ  الدُّنْيَا  بِأَجْمَعِهَا       هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ القُطْنِ وَالكَفَنِ
وحكى أبو منصور الثعالبي في كتاب غرر النوادر قال: تأذى أبو الغصن جحا بالريح مرة فقال يخاطبها: ليس يعرفك إلا سليمان بن داود الذي حبسك حتى أكلت خراك.
وعن عبدالله بن المقفع في الأدب الصغير قال: الناس - إلا قليلا ممن عصم الله - مدخولون (فيهم فساد وعيب وغش في العقل أو الجسم أو الرأي) في أمورهم: فقائلهم باَغٍ، وسامِعُهم عَيَّابٌ، وسائِلُهم مُتَعَنِّتٌ، ومُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ، وواعِظُهم غير مُ                                   حَقِّقٍ لقوله بالفعل، ومَوْعُوظُهُم غير سَليمٍ من الاسْتِخْفَافِ، والأمينُ منهم  غير مُتَحَفِّظٍ من إِتْيَانِ الخِيَانَةِ، وذو الصِّدْقِ غير مُحْتَرِسٍ من حَدِيثِ الكَذَبَةِ، وذو الدِّينِ غير مُتَوَرِّعٍ عن تَفْرِيطِ الفَجَرَةِ، والحَازِمُ منهم غير تَارِكٍ لِتَوَقُّعِ الدَّوَائِرِ، يَتَنَاقَضُونَ البُنَى، وَيَتَرَقَّبُونَ  الدُّوَلَ، وَيَتَعَايَبُونَ بِالْهَمْزِ، مُولَعُونَ في الرخاء بِالتَّحَاسُدِ، وفي الشدة بِالتَّخَاذُلِ.
أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالفضل أَعْوَدُهُمْ على الناس بفضله، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبا، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق عِلما وأكملهم به عملا، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله تعالى، وأصوبهم رجاء أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعا بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناس أفشاهم معروفا، وأقواهم أحسنهم معونة، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلجهم بالحجة (أحسنهم إدلاء بها) أغلبهم للشهوة والحرص، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسه حبا، وأجودهم أصوبهم بالعَطِيَّةِ مَوْضِعاً، وأطولهم راحة أحسنهم للأمور احتمالا، وأقلهم دهشا (حيرة) أرحبهم ذراعا (قوة وقدرة وبطشا)، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أوتي وأخفضهم عيشا (ألينهم عيشا).
وجاء أيضا في كتاب الأدب الصغير لعبدالله بن المقفع: حياة الشيطان ترك العلم، وروحه وجسده الجهل، ومعدنه في أهل الحقد والقساوة، ومثواه في أهل الغضب، وعيشه في المصارمة، ورجاؤه في الإصرار على الذنوب.
لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضع، ولا الخفض (لين العيش) بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق.
وجاء في كتاب صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال للقاضي حسين بن محمد المهدي أن  أبا الدرداء قاال: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وقد صاروا شوكاً لا ورق فيه، إذا نافرتهم نفروك وإن تركتهم ما تركوك.
وجاء في نفس الكتاب على أن من أدب النصيحة ألا تكون في العلانية لأنها نوع من التشفي، ولأن النصيحة مُحَاطَةُ بالتُّهْمَةِ ولهذا فانه لاينبغي إبداؤها إلا سرا غالبا، لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه (احتقره)، ومن وعظه سرا فقد زانه، وقديما قيل: علامة الناصح إذا أراد زينة المنصوح له أن ينصحه سرا، وعلامة من أراد شِينَةً أن ينصحه علانية، ورحم الله الشافعي حيث يقول:
تَعَمَّدْنِي  بِنُصْحِكَ فِي انْفِرَادِي        وَجَنِّبْنِي  النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَهْ
فَإِنَّ  النُّصْحَ  بَيْنَ  النَّاسِ  نَوْعٌ        مِنَ التَّوْبِيخِ لاَ أَرْضَى  اسْتِمَاعَهْ
وَإِنْ خَالَفْتَنِي  وَعَصِتَ   قَوْلِي       فَلاَ  تَجْزَعْ  إِذَا لَمْ تُعْطَ  طَاعَهْ
أما أبو العتاهية فيقول في هذا النوع من النصيحة لكل الفهماء والمتشدقين بالمعرفة وكثرة الفهامة، حيث  شبههم كاريكاتوريا بالمبراة التي تبري الأقلام:
يُرِيكَ  النَّصِيحَةَ  عِنْدَ  اللِّقَاءِ      وَيَبْرِيكَ فِي السِّرِّ بَرْيَ القَلَمِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق