الباب الضيق

الباب الضيق
في الفترة المزدهرة من حياة الإنسان وهي فترة الشباب يبدو كل شيء في الحياة ممكنا.. في هذه المرحلة من العمر يحس الإنسان بتدفق طاقة الحياة في عروقه ويحس أنه يكتشف الدنيا من جديد.. فبعد أن كانت الأشياء في مرحلة الطفولة تبدو سهلة ساذجة لا معنى لها أحيانا.. أصبح كل شيء الآن ساخنا حارا له معنى ودلالة.
وفي فترة الشباب الأول ونتيجة للدفعة القوية المفاجئة من دفعات الحياة يبدو الإنسان في نظر نفسه قادرا على كل شيء، وبذلك تكون أحلامه واسعة ومشروعاته كبيرة غير محدودة.. ثم تبدأ المفاجآت، تبدأ بعد خطوة أو خطوتين من شباب الإنسان.. إنه يصطدم بالحياة ويجد أن الأحلام العريضة لا مجال لها وأن الأفكار المثالية النقية تحتاج إلى بعض التعديل أو إلى الكثير من التعديل، وأن المشروعات الكبيرة الرائعة تتضاءل وتفقد بريقها اللامع، وأن الفتاة التي كان يحبها لم تكن بكل هذه الروعة التي كان يتصورها من قبل.. وأحيانا تقول كلاما سخيفا كأنه شوك.. لم يعد في كلامها عسل ولا سكر.. وأحيانا تتصرف تصرفات سخيفة تخلو من الشاعرية والسحر، والصديق الذي كان يؤمن به ويضعه في أعلى وأعمق مكان في القلب إنه هو الآخر يتصرف بأنانية وبدون مثالية بيضاء نقية، أما العمل الكبير الذي كان يحلم به فقد تحول إلى شيء محدود بسيط.. إلى وظيفة في مكتب.. إلى مدرس أومهندس أو طبيب، لقد كان يظن أنه سيغير الدنيا ويقوم بأعمال عظيمة رائعة.
وتتوالى المفاجآت.. وتتوالى الصدمات النفسية التي تجرف معها التفاؤل والحيوية وتخلق الحزن والإحساس بالكآبة والتعاسة، ولحظة "الصدمة" تمر تقريبا بكل إنسان.. وهناك من يعتبرون هذه اللحظة هي نهاية الحياة فينتحرون انتحارا فعليا أو ينتحرون بطريقة أخرى لا تقل عن الأولى خطرا، إنهم يغيبون عن الحياة بالسكر أو بأي عادة أخرى جامدة تشغلهم عن التفكير في الحياة مثل الجلوس على مقهى والاستغراق في ألعاب تافهة متكررة مسلية، وهناك من يعبرون لحظة الصدمة ويستمرون في الحياة، وشيئا فشيئا يكتشفون أن الحياة بعد "الصدمة" أعمق لأنها حقيقية وليست ملفوفة "سلوفان" اسمه الوهم أو الحلم.. كما كان الموقف في شباب الإنسان الأول، ولكن الخروج من ظلام الصدمة يحتاج إلى بوصلة تحدد للإنسان اتجاهه وترسم له الطريق حتى لا يضيع، وكل الأطباء الكبار للنفس البشرية يقولون إن البوصلة الوحيدة هي: العمل، ولكن السؤال: ماذا نعمل ؟
إن كلمة العمل بمعناها العام لا تكفي ولا تؤدي إلى نتيجة ذلك لأن "الصدمة" نفسها قد تؤدي بالإنسان إلى كراهية كل شيء، والإحساس بأن كل شيء في هذه الحياة لا يستحق الاهتمام، ويصل هذا الشعور أحيانا إلى حد احتقار النفس والإحساس بأن ذات الإنسان أيضا هي جزء من هذا العبث الغريب الذي نسميه: الحياة، فإذا كان الحب لا يجدي والصداقة لا تجدي والمعرفة لا قيمة لها، فأي نوع من أنواع العمل يمكن أن يكون مجديا ؟!
ونعود إلى الأطباء الكبار للنفس البشرية، ونقف مع طبيب واحد من هؤلاء الأطباء هو أديب ألمانيا العظيم جوته، إن هذا الطبيب العظيم للنفس البشرية يقول إن العمل وحده هو الذي يعطي بقية الأشياء في الدنيا معناها وطعمها الحلو، فالعمل هو القوة السحرية التي تجعل الحياة ربيعا دائما، كل شيء فيها أمام الإحساس أخضر منتعش جميل في الحقيقة لا في الوهم، إن العمل هو الذي ينعش الحب والصداقة ويجعل المعرفة زادا ثمينا نحمله معنا في رحلة الحياة فلا تجوع أرواحنا أبدا ولا نتعرض للضياع.
ثم يقف طبيب النفس البشرية ليقول لنا: إن من الخطأ أن نرسم لأنفسنا خطة ضخمة لأعمال كبيرة وننتظر أن يتحقق ذلك بصورة مفاجئة، فإذا لم يتحقق ما كنا نحلم به أصابتنا التعاسة وامتلأت نفوسنا بالكآبة والهم، إن ذلك هو خطؤنا وليس خطأ الحياة، والطريق الصحيح الذي يقودنا إلى نبع الحياة الحلو وسحرها الدافئ هو أن يقول الإنسان لنفسه: "إن الخطة المثلى هي أن أعمل الواجب القريب مني".
ثم يؤكد جوته هذا المعنى مرة ثانية فيقول: "ما أثمن وما أكثر أهمية الواجب القريب مني"، ومرة ثانية يقول لنا طبيب النفس البشرية بصوته الذي صقلته التجربة والإشفاق على الإنسان في محنة ضياعه وأساه: "دع هذا الذي يتحسس طريقه في الظلام والضوء المرتجف ويدعو ويبتهل لإقبال الفجر يستمسك بهذه الوصية ويحرص عليها أشد الحرص وهي أن يعمل الواجب القريب منه، فإذا قام بذلك أصبح الواجب الذي يتلوه واضحا ظاهرا"، فالعمل الصحيح الذي يحمل سر السعادة والتغلب على آلام الحياة هو: عمل الواجب القريب من الإنسان، فالواجب القريب من الإنسان قد يكون حلقة ضيقة ولكن إتمام هذا الواجب يقود إلى دائرة أوسع، ويكشف عن الكثير من المعاني الجديدة الرحبة في الحياة، فالخطوة الأولى تقود إلى الخطوة الثانية، وأكثر الناس الذين يحلمون بالأعمال الكبيرة هم أكثر الناس فهما وإدراكا لحقيقة هي: أن هذه الأعمال تبدأ دائما بمراحل صغيرة متواضعة.
فالعمل البسيط الرقيق المتواضع البعيد عن الأضواء البعيد عن الزحام والضجيج، العمل الذي قد لا يكون مغريا مثيرا، هذا النوع من العمل هو الباب الضيق، الباب الذي لا يحب الكثيرون أن يدخلوا منه إلى الحياة لأنهم يفضلون الأبواب الواسعة التي تؤدي بهم إلى أهدافهم، هذه الأبواب الواسعة التي نسجتها الثروة أو الشهرة أو غير ذلك من أبواب الحياة.
إن التفكير في هذه الأبواب نفسه هو الذي يسمم حياتنا ويجعلنا نشعر بالفشل والعجز عن تحقيق أحلامنا ويؤدي بنا إلى التمزق النفسي الدائم، ولكن الباب الضيق هو العمل الصغير المتواضع الذي يؤدي إلى عمل أوسع منه، وقد يكون الباب الضيق خاليا من كل بريق إلا في شيء واحد هو أنه يؤدي إلى الإحساس بمعنى الحياة، والإمساك بالخيط السحري الرفيع الذي يجعل القلب مليئا بالأمل ويجعل العين تبصر في الحياة أشياء قد لا تراها العيون العادية.. عيون الذين يدخلون من الأبواب الواسعة فيرون الأشياء نفسها ولكن بصورة قاتمة غائمة.
إن الباب الضيق هو في كلمات: طريق السعادة الداخلية العميقة.. وهذا هو ما توصل إليه جوته وسائر العظماء الذين أعطونا مفتاح السر الذي نكتشف به حقيقة الحياة.. لقد ظل جوته يعمل وهو في قمة مجده وشهرته وثروته كما يعمل أي تلميذ صغير بنفس المثابرة والتواضع حتى وهو على فراش موته، فقد طلب وهو في آخر لحظات حياته ورقا وقلما ليعاود العمل.. ليستمر في الكتابة.. عمله الذي أحبه واختاره وأخلص له منذ البداية.. وقبل أن يموت بلحظات عبر عن سعادته وفرحته بعودة الربيع إلى الأرض، لقد ظل حياته التي استمرت أكثر من ثمانين عاما يعمل ويلتمس السعادة والفرح وعذوبة الحياة: في العمق.. في عمل الواجب القريب منه دائما.. في الدخول من الباب الضيق الذي لا يقبل عليه الكثيرون.
المدون عن " تأملات في الإنسان" لرجاء النقاش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق