إذا حملتك قدماك إلى شارع مليء بالشحاذين والحواة وجرادل (جمع جُردل وهو السطل أو الدلو) القمامة التي يلقيها السكان من البلكونة على رؤوس المارة فلا تدع الدهشة تعقد لسانك-إنك تقف-دون أن تدري بالطبع-في شارع الصحافة.
وأنت هنا في هذا الشارع المدهش، مجرد بقرة بلا ذيل، إنك لا تستطيع أن تعتمد على حماية الشرطة، لأن القانون نفسه يقف عادة إلى جانب شارع الصحافة، ولا تستطيع أيضا أن تعتمد على قبضتك، أو تفعل شيئاً في العالم ضد حزم الجرائد التي تسقط فوق رأسك من كل البلكونات.
إن كل ما في وسعك أن تفعله هو أن تواصل المشي في شارع الصحافة الممتد من المحيط الهادر الى الخليج الثائر سابقاً، وتقرأ الصحف العربية الصادرة في المنطقة، وتأكل خُطَباً حتى تصل الثقافة الى أذنيك.
ولا بد أن يصلك أول جردل بيد رئيس التحرير نفسه، ولا بد أن يُثبت لك ذلك الرجل الطيب القلب أنه قد أنفق ليلة البارحة ساهراً بحانب آلة الطباعة لكي يعد لك افتتاحية الصباح ويجعل صباحك لَبَناً مخلوطاً بقليل من الثقافة، وأنت مُعَرَّضٌ بالطبع لأن تموت من الإعجاب بمهارة السيد رئيس التحرير في خلط اللبن، ولكن لا تدع ذلك يشغلك عن مهاراته في إعداد بقية الوجبة.
إنه سيحدثك عن أي شيء، ذلك يعني عن أي شيء حقاً من إبادة إسرائيل الى إبادة دودة القطن، وسوف يفعل ذلك دائماً في حدود المصلحة العامة ويضربه بالملعقة مع إضافة قليل من الأشعار والملح ويخلطه بخبطة نهائية تخص أي مخلوق يضعه سوء الحظ في طريق السيد رئيس التحرير، وعندما تنضج الوجبة في نهاية المطاف يرش فوقها بعض النصائح الموجهة إلى الشحاذين في الخارج ويدلقها فوق رؤوسهم من البلكونة.
ذلك يحدث في البلاد العربية خدمة للمصلحة العامة، وحكاية مكاسب الشعب أيضا وتحقيق وحدة الأمة وبعض الخدمات الجانبية، ورغم أن الافتتاحية تستطيع أحيانا أن تتناول موضوعا معقدا لا علاقة له بالشعب التائه تحت البلكونة مثل الهبوط على سطح القمر، فإن السيد رئيس التحرير يمكنه دائما أن يجد حيلة ما لربط القمر بالمصلحة العامة، إنه-عادة-يبدأ تلك المغامرة الشعرية بطلب فنجان من القهوة بدون سكر، ثم يشعل لفافة تبغ ويشتم الأمريكيين الذين وضعوه في هذا المأزق ويكتب الافتتاحيات الفظيعة رغم أنفها، وعندما ينظر من البلكونة ويكتشف فجأة أن الشعب المشار إليه ما يزال يعتقد أن الأرض تدور على قرن ثور، يكتب له في الافتتاحية أن السيد أرمسترونغ قد رفع عينيه بدون تعمد فوق سطح القمر ورأى الثور معلقاً في الهواء.
ذلك يحدث في الصحف العربية لأن رؤساء التحرير-في الغالب- يُفْرِطُونَ في شرب القهوة بلا سكر، ولأن أحدا منهم لا يهمه أن يرفع الشيطان نفسه رأسه الجهنمي لكي يرى الثور معلقا في الهواء، مادام ذلك يساعده على ربط القمر بالمصلحة العامة.
فالمهم أن يحتفظ الشعب بثوره، ويحتفظ السيد رئيس التحرير بوظيفته، ويعيش كل امرئ هادئ البال بغض النظر عن رائحة الكون المتوقعة غذا كان حقاً مجرد إسطبل للثيران.
إن الكون لا يخص السيد رئيس التحرير ولا يخص الشعب التائه تحت البلكونة أو الثيران التي تتسكع بين النجوم أو أضرحة الأولياء وشعوذة الفقيه المحلي وتجارة الفكر الحافلة بالغش وعرض النفاق السياسي في نوافذ السوق الرئيسي والقهر العقلي الذي يحصد المنطقة مثل وباء الطاعون.
الافتتاحية فقط تخص السيد رئيس التحرير لكي يعرض فيها عواطفه النبيلة، ويدق فيها طبلته للسياسيين ويهتف وراءهم بإبادة إسرائيل مرة وبالحل السلمي مرة وبالوقوف على الرأس وقت الحاجة والتمسك بأهداب الفضيلة وتنقية مياه البحر وإنشاء محطة للأوتوبيس وإقامة ملجإ للشحاذين السعداء.
ذلك لا بد أن يقوله السيد رئيس التحرير كل يوم، ولا بد أن يجعل الافتتاحية تبدو مملة إلى حد لا يُطاق، ويتورط في ارتكاب بعض الحماقات التي تتسبب أحيانا في إصابة المرء بالدوار لكي يُثبت لمواطنيه أن الصحف العربية لا تريد شيئا في العالم سوى أن تراهم يموتون من السعادة.
أما أن تراهم يعيشون مثل بقية البشر؟ أما أن تقف للدفاع عن حقهم في الحياة مثل غيرهم بالضبط؟ وتعمل على حمايتهم من الحواة السياسيين وباعة الأفكار والأحذية القديمة والمتشردين الشيوعيين والفقهاء الميتين بالعقم وأضرحة الأولياء وعمليات التقديس والقهر الفكري؟ أما أن يضع السيد رئيس التحرير رأسه في هذه المقصلة، فذلك في الواقع مجرد إغراء نجس من جانب الشيطان بالضبط.
فالمواجهة الفكرية لا يستطيع المرء أن يَدْلُقَهَا (يَصُبَّهَا) من البلكون، إنه لا بد أن يحملها بين يديه بحذر متناهٍ، ولا بد أن يمنحها كل وقته، ويضع كل ما لديه جانبا لكي يتفرغ لتحقيق أبعادها المعقدة، والمرء لا يأتي إلى شارع الصحافة لكي يفعل هذه الخارقة، ويتورط في محاربة طواحين الهواء ويتلقى الشتائم على الأرصفة ويفقد راتبه أيضا، إنه يأتي-عادة-لأنه يعتقد أن أحدا ما لا بد أن يُشِيدَ بمشروع الجمعيات التعاونية أو مشروع تنقية مياه البحر أو أية كارثة أخرى، وأنه بالذات يُحسِنُ القيام بهذا العمل نظرا لاستعداده الفطري في كتابة مواضيع الإنشاء.
هكذا يصل السيد رئيس التحرير في معظم البلاد العربية إلى مكتبه، إنه لا يحتاج إلى أن يضع رأسه داخل أية مقصلة، ولا يحتاج إلى إثبات تفوقه الفكري أو قدرته على تحديد الاتجاه أو الرؤية الواضحة أو العمل الجاد الذي يمكن الوثوق بنتائجه، إنه فقط يحمل استعداده الفطري في كتابة الإنشاء فوق كتفه ويذهب إلى مكتبه ويقود الأمة العربية إلى النصر والسعادة معتمدا على الصُّدْفَةِ وحدها.
وفي العادة تسقط الأمة العربية في حفرة ما، ويحدث أي شيء لتغيير وجهة القافلة ويستدير السيد رئيس التحرير وينطلق مرة أخرى في الاتجاه الجديد مزودا بالطبع باستعداده الفطري في كتابة الإنشاء، إنه يذهب في كل اتجاه مزودا دائما باستعداده الفطري في كتابة الإنشاء.
ويلبس لكل حالة لُبُوسَهَا، وَيَتَشَقْلَبُ على الحبل بالمجان رغم أن أحدا من المواطنين أو من أصحاب الحكومة الجديدة لا يملك من الوقت ما يضيعه في مشاهدته، ولكن السيد رئيس التحرير لا بد أن يقوم بواجبه على أي حال، ولا بد أن يدلق (يَصُبَّ) جردله (سَطْلَهُ أو دَلْوَهُ) الصباحي على رؤوس المارة.
وفيما تبدو صحف العالم بمثابة منصة يومية لمنجزات الفكر الخلَاَّقَةِ، وفيما تُضَاءُ كل الطرق بمزيد من الرجال الشجعان والأوفياء، وفيما تنطلق الشعوب العظيمة في مسيرتها الآمنة وراء صحافتها، يظل رئيس التحرير في البلاد العربية يتشقلب في البلكونة بالمجان ويستبدل الأقنعة السياسية كل يوم ويكتب الإنشاء المريع في فوائد الحاكم الجديد، ويدلق الجرادل فوق رؤوس مواطنيه مقابل راتبه وحده.
ولدينا في المنطقة-من المحيط الهادر الى الخليج الثائر سابقا-أكثر من ألف رئيس تحرير، ولدينا شارع الصحافة الذي يمتد على طول الأمة العربية مزوداً بكل الاستعدادات الفطرية في كتابة الإنشاء، ولدينا أيضا ألف موضوع إنشاء كل يوم، ومع ذلك فإن المرء لا يستطيع أن يجد سبباً واحداً لموت الشعوب العربية-الذي يراه العالم بأسره-سوى أنها-بطريقة ما قد ماتت من السعادة.
فالصحف العربية لا تذكر سببا آخر، إنها في الواقع لا تذكر شيئا على الإطلاق سوى أن الحاكم الجديد قد وصل هذه المرة حاملاً مفتاح الجنة، وأنه وجد ذلك المفتاح صدفة، فإذا حدث تغيير آخر فإن الصحف العربية تُسارع إلى القول بأن المفتاح السابق كان مزيفا، وأن الجنة سوف تفتح أبوابها هذه المرة حقا، أما نقاش الفكرة نفسها والوقوف في مقدمة القافلة بدل الاكتفاء بوصف مهارات الحاكم الجديد، وتحديد الاتجاه بوضوح مقام على المنطق والفكر معا، فإن ذلك كله يضيع عبثا في صناعة الإنشاء.
الشعوب العربية في المنطقة تعيش داخل دوامة فكرية مميتة، وتلهث بلا انقطاع لملاحقة كل الأفكار المريضة والمستوردة، ويقودها المتشردون الشيوعيون والإمبرياليون والقوميون وقطعان الفقهاء الجهلة وعساكر البندر وباعة القيم الجاهزة الصنع.
والسيد رئيس التحرير يتربص بها في البلكونة ويدلق جردله الصباحي فوق رأسها دون أن يخطر بباله أنه يستطيع-من باب الرحمة على الأقل-أن يترك الأمة العربية وشأنها، فالمرء لا بد أن يكتب شيئا في الجريدة، إن ذلك قضاء لا بد منه على أي حال، ولا بد أن يتشقلب قليلا على الحبل ويُشِيدَ بأحد ما في هذا العالم، ويشتم رجلا آخر، ويحشر أنفه في بوق الدعاية البلهاء، والمرء لا يستطيع أن يقبض راتبه إذا خرجت الجريدة غير ملوثة بالحبر، إنه لا بد أن يكتب شيئا هناك، أعني أي شيء يجده صدفة على رصيف شارع الصحافة.
إنه لا يحتاج إلى الذهاب للبحث عنه في أي مكان، ولا يحتاج إلى التورط في مشقة العمل الفكري الجامح الذي يقع عادة على بعد بضعة أميال من قشرة الأرض، إنه يولد كاتبا بالسليقة (بالفطرة)، أعني هكذا مثل الحوتة التي تولد لكي تسبح في كل المياه، ويولد حاملا مشعله المضيء، ويدفع القابلة المدهوشة جانبا، وينطلق على الفور لكي ينير الطريق أمام مواطنيه.
لا أحد يستطيع أن يَعُوقَهُ عن أداء ذلك الواجب، لا أحد..فلا تدع الدهشة تعقد لسانك إذا رأيت ذات يوم طفلا حديث الولادة ينطلق حاملا مشعله، وفي أعقابه تلهث العجوز القابلة، إنه مجرد واحد منهم..أعني سكان شارع الصحافة.
المرجع:
العنوان الأصلي للمقال هو 'شارع الصحافة' كتبه الصادق النيهوم رحمه الله في 7 أغسطس 1969، وتم نشره مع مجموعة من المقالات الأخرى في مؤلف تحت عنوان 'فرسان بلا معركة'- الطبعة الثانبة 2001 من طرف 'تالة للطباعة والنشر' بطرابلس داخل الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، ومن طرف 'الانتشار العربي' بيروت –لبنان خارج الجماهيرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق