التنمية
الحقيقية عوض ما تروج له أنظمة الحكم في العالم العربي الغارق في الاستبداد
والفساد والتخلف حتى الأذنين، ليست هي المشاريع العملاقة التي تدغدغ نرجسية الحكام
وبطانتهم من المنتفعين الإنتهازيين، بل هي تنمية من قبل الناس وبواسطة الناس
ولمصلحة هؤلاء الناس، لأن الإنسان ليس مجرد قدرات وطاقات منتجة يتعين تأهيلها من
أجل التنمية الاقتصادية كما يُشاع، بل الناس الذين يهدر كرامتهم الحكام صباح مساء
هم المحور الأساسي على مستوى المدخلات والعمليات والمخرجات والغايات التي ترتقي
بحياة هؤلاء الناس إلى تحقيق كاملٍ لإنسانيتهم وحفظ كرامتهم وشرفهم، وعيشهم في
أوطانهم أحرارا أعزاء متحررين من ظلم وتسلط الحكام من جهة، ومن امتهان لكرامتهم وعزتهم
في عقر ديارهم لدرجة لا تُطَاقُ من طرف الغرب الصليبي المتغطرس بجيوشه وقوته
المادية من جهة أخرى.
لقد
قدم علم النفس ولا شك خدمات كثيرة في قطاعات التربية والتعليم والتدريب والصحة
والأمن، إلا أنه لا زال في المقاعد الخلفية في التعاطي مع مشكلات التنمية على
الصعيد الوطني لجهة بحث قضايا الاستبداد والقهر والهدر والبطالة والفقر والتوترات
الاجتماعية المتزايدة، وهو ما زال بالتالي خارج حلقة التنمية الإنسانية
والمجتمعية، وبحث شروطهما ومقوماتهما وكشف معوقاتهما.
أما
الهدر فهو أوسع مدى بحيث يستوعب القهر الذي يتحول إلى إحدى حالاته، فالهدر يتفاوت
من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء، وبالتالي عديم
القيمة والحصانة، مما يُمَكِّنُ من التصرف فيه بصورة منحطة ومذلة، ويتسع نطاق
الهدر ليشمل هدر الفكر، وهدر طاقات الشباب ووعيهم، وهدر حقوق المكانة والمواطنة،
بحيث تصبح المواطنة نوعا من الْمِنَّة التي يُمَنُّ بها على الإنسان، ووصولا إلى
الهدر المتبادل في علاقات الصراع الثنائية والجماعية.
يتفاوت
الهدر إذن بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى، وبين استعباده وإهماله
والاستغناء عن فكره وطاقاته باعتباره عبئا أو كيانا فائضا عن الحاجة، كما هو شأن
الأنظمة التي تستأثر بخيرات الوطن، وترى في جحافل الجماهير المغبونة والمحرومة
والمقهورة والمهدورة عبئا على رفاه واستمتاع المترفين المحظيين، كما قد يتخذ الهدر
طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد، فَيُضَحَّى به في
حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذي اشتعالها، أو هو الأداة التي تُبَجِّلُ وَتُطَبِّلُ
لسلطان المستبد وتخدم أغراض هيمنته وتوسيع سطوة نفوذه.
المهم
في المسألة أن الهدر يضرب مشروع وجود المرء كي يصبح كيانا ذا قيمة وقائما بذاته،
وذا دلالة ومعنى واعتبار وامتلاء وانطلاق، والهدر على هذا المستوى هو نقيض بناء
التمكين والاقتدار وصناعة المصير، ومن ذلك يتضح كيف أن الهدر يستوعب القهر، بحيث
إنه لا يصبح ممكنا إلا بعد هدر قيمة الإنسان واستباحة حرمته وكيانه في عملية
الإخضاع والاتباع، كذلك فإن القهر حين يحدث في علاقة الاستبداد أو أي علاقة تسلط
بالإرغام، فإنه يترسخ ويُعِيدُ إنتاج الهدر ذاته إلى ما لا نهاية.
ويشترك
كل من الهدر والقهر في تفاقم المأزق المتراكم بحيث يصبح الوجود غير قابل للاحتمال
والمواجهة، والواقع أن الصورة تبدو في مجملها سوداوية، مأساوية، بل وتكاد تكون
كارثية، تُدْخِلُ اليأس في النفوس، وهو ما يفسر في النهاية حالة العطالة والتقهقر
والضعف والوهن، وفقدان المناعة الوطنية التي يُوَلِّدُهَا تفاقم الهدر من كل نوع، كما أن
الهدر يجعل كل حديث عن الديمقراطية والتنمية حديث خرافة أو حكاية من حكايات
الساحرات، ما دام الشرط المؤسس لهما والمتمثل في الاعتراف أولا وقبل كل شيء
بإنسانية الإنسان وقيمته وفكره ووعيه ومواطنيته، هذا الإنسان الذي ما انفك
يتعرض للهدر والاستباحة أو للتجاهل والتغافل.
إن
قوى الاستعمار وطغيان العولمة لهما مسؤولية كبرى عن واقع التخلف، وهناك تفاعل
دينامي ما بين القوى الداخلية والخارجية التي تهدر إنسانية الإنسان وتكامل فعلها
وتأثيرها، فالتدخل الأجنبي المغلف بشعارات براقة ودعوات زائفة إلى التحرير الداخلي
هو في الواقع الحليف الأكبر لقوى الهدر الداخلي الذي تدعي التدخل لتغييره، كما أن
الهدر الداخلي ذاته هو حليفها الأكبر الذي يجعل شروط تدخلها ممكنة من خلال ما
يسببه من قضاء على مناعة المجتمع بكل الوسائل التخريبية في أناسه ومؤسساته.
ولا
يمكن مطلقا لأي ديمقراطية أن تنمو وتزدهر في الوطن العربي دون الاعتراف بإنسانية
(المواطن) العربي، لأن كسب معركة الديمقراطية والتنمية تتمثل أساسا بالبشر
وتَمَكُّنِهِمْ، وبالمجتمع وعافية بُنَاهُ ومؤسساته وآليات تسييره، فَتَمَكُّنُ
الناس وعافية المجتمع هما الضمانة الحقيقية لأي تنمية ودوامها على اختلاف أنواعها
ومجالاتها، فلإنسان هو الأساس وهو الهدف وهو الوسيلة في كل تنمية، والناس هم
النواة المحورية في الوسائل والغايات، وتمكين الناس رجالا ونساء وأطفالا هو منطلق
أي تنمية ممكنة، مآلها يحدد القضية الأساس ويحولها عن مفهوم (التنمية البشرية)
الفضفاض الذي درجت عليه تقارير الأمم المتحدة في هذا الصدد، الإنسان هو الأساس في
المجتمعات المتقدمة، ويتعين أن يكون الأساس في سعي المجتمعات النامية للنهوض،
وتكمن التنمية في عملية توسيع نطاق خيارات الناس في جميع ميادين سعي الحياة، من
خلال تمكين الناس جميعا من المشاركة بفاعلية في التأثير في العمليات التي تشكل
حياتهم، ويتم هذا التمكين من خلال تحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وخصوصا
الحرمان من الحرية بجميع أشكالها وتجلياتها، ومن المعرفة على نطاق أشمل وأعم، بذلك
وحده يتمكن الإنسان العربي من السيطرة على زمام مصيره، وصولا إلى صناعة هذا
المصير، وهو يقتضي بالتالي التحول من دولة الصالح العام إلى واقع يقوم على دول
الحق والعدل والعدالة الاجتماعية، في دولة صالحة للعيش تحفظ كرامة جميع مواطنيها
بدون استثناء.
فالتنمية
الإنسانية والأمن الإنساني هي الاعتراف بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا
الإنسان، وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مُسْبَقٍ لبناء الاقتدار الإنساني الذي
يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية، الإنسان أولا وفي الأساس،
والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع وكذب
مغلف في كذب.
فما
قبل الديمقراطية يجب الاعتراف بإنسانية الإنسان، والحرية والديمقراطية تُدِينُ حكم
المخابرات والبوليس السياسي الذي يشكل النقيض لكل تنمية: المخابرات التي تنحرف عن
مسارها ووظائفها المفترضة في حماية الوطن من أعداء الخارج، تتوجه نحو الداخل
وتطارد الإنسان في كل موقع وفعل أو قول بهدف حماية الكراسي، إلا أنها إذا استطاعت
الحفاظ على الكراسي، فإنها لا تستطيع قطعا ولا بأي حال من الأحوال كسب قلوب الناس
وتسيير المجتمع ونمائه، ذلك أن دورها تحول إلى حصار الإنسان وقمقمة طاقاته الحية
وترويضها، من خلال التربص بالسلوك ومطاردة الفكر، فكيف يمكن إنجاز بناء أو تحقيق
تقدم أو إنماء ما دامت المخابرات والبوليس السياسي لا هم لهما أو اهتمام سوى خصاء
الطاقات الحية في كل تعبيراتها الرافضة أو حتى المتسائلة، باعتبارها تهدد استقرار
الوضع القائم، وكيف يمكن بناء معرفة علمية وعلوم متقدمة في ظل الخشية من التجرؤ
على الفكر والقول الذي يهدد بقطع الأرزاق، هذا إن لم يؤد إلى التهلكة من خلال
تسليط سيف التجريم السياسي، والتحريم الديني على الرؤوس، وكيف يمكن بالتالي إنجاز
بناء أو نماء حين تصبح "حماية الرأس هي الأساس"؟
أما
الركنان الآخران المتممان لعمل المخابرات فهما العصبيات على اختلاف ألوانها،
والأصوليات الدينية المتفاقمة، تفرض العصبيات القبلية والعشائرية والأسرية
والطائفية والعرقية والإثنية والجهوية...إلخ حصارا على أتباعها من خلال النظام
البطركي والولاء مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنيمة، فهذه العصبيات هي
عدوة الاستقلال الذاتي والتجرؤ على الفكر وبناء كيان فريد وأصيل، إنها تُخْصِي
بدورها طاقات النماء والنزوع إلى الاستقلال الراشد ومبادراته كي يستثب لها الأمر،
وتضمن سلطانها على أتباعها من خلال تحويلهم إلى كائنات طفيلية تابعة بدون شخصية
وعديمة القيمة، هذا الانتشار الذي يتحول إلى حصار يجعل الأولوية في مختلف مؤسسات
القطاع العام العربية للولاء وليس للأداء، فأنت جيد ما دام ولاؤك مضمونا، وعندها
تنال نصيبك من الغنيمة والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئا، والويل كل
الويل لمن يخرج عن الولاء مهما كان مخلصا ومهما كان أداؤه متميزا، فكيف يمكن
عندها أن تقوم المؤسسات بدورها في تحصين النسيج المجتمعي والوطني وفي التنمية
عندما تتحول إلى مواقع لتصارع العصبيات على النفوذ والمغانم؟
ومن
خلال هذا الحصار وتلك القمقمة لا يفقد الإنسان إرادته فقط بل إن كيانه ذاته بكل ما
فيه من حيوية ونزوع إلى الانطلاق والإمساك بزمام المصير هو الذي يُعَاقُ
وَيُقْهَرُ وَيُهْدَرُ، إنه يدفع الإنسان إلى النكوص إلى مستوى حاجات السلامة
والمعاش والجري وراء توفيرهما والحفاظ عليهما كالحيوان أو أدنى من ذلك، ولا يعود معها
سيدا على ذاته، ولا هو سيدا في وطنه، حتى مواطنيته ذاتها تتحول في الكثير من
الأحيان إلى نوع من الْمِنَّة التي يُمَنُّ بها عليه من أولي النعمة، ما دام
ينبطح ويستكين إلى البقاء في القمقم.
ومن
خلال الحرب النفسية والعسكرية التي تُشَنُّ على الأمة العربية، أصبح الحصار
الثلاثي رباعيا من خلال 'تهمة الإرهاب' التي تصب على رؤوس الناس وتدفع بهم إلى
موقع المذنب الذي يتعين عليه إثبات براءته من خلال الانقياد والانبطاح لمشروع
الهيمنة الكوني، ومن خلال الإصرار والتكرار والانتشار يتحول الحصار الرباعي
الخارجي إلى حصار داخلي للذات، ينجح مربع الحصار والقمقمة وتسليط سيف التهديد
والإدانة، حين يصبح الإنسان على نفسه رقيبا، وحين يخابر على نزعاته وتطلعاته إلى
التعبير والانطلاق، وينجح التحريم حين يُنَاصِبُ الإنسان ذاته العداء، وَيُفْرَضُ
التحريم على نزواتها وتطلعاتها وتمرداتها.
إن
الاستبداد ليس مجرد حجب للديمقراطية أو منع الحقوق، بل هو علاقة مختلفة نوعيا تقوم
على اختزال الكيان الإنساني للآخرين إلى مستوى "الرعية" التي تعني لغويا
قطيعا من الأكباش أو الأغنام، الذي يمتلكه السلطان ويحميه ويرعاه، والذي بدون هذه
الحماية والرعاية يكون مصيره الهلاك، لأنه لا يملك القدرة أو الإرادة على الإمساك
بزمام المصير، ولا عبور إلى الديمقراطية بدون استرداد الإنسان لحقه في إنسانيته
ومكانته، لا ديمقراطية ممكنة إذن بدون هذا الشرط المسبق المتمثل في القضاء على
الهدر الوجودي، واستعادة قيمة الكيان الإنساني وحرمته وأحقيته.
تتخذ
ألوان الهدر أشكالا ومستويات متفاوتة، ويمكن الحديث عن هدر عام وهدر خاص، فالهدر
العام هو الذي يطال شرائح كبرى من الناس، أو حتى مجتمعات بأكملها، يدخل ضمن هذه
الفئة حالات الطغيان والاستبداد وحكم المخابرات والعصبيات على اختلافها والأصوليات
المتطرفة، ومن ضمن الهدر العام يأتي نهب القلة للثروات والخيرات وحرمان الغالبية
منها، ودفعها إلى المستوى النباتي من الوجود، أي بالكاد تسد الرمق، مما يدفع
بالجماعة وأفرادها إلى ما دون خط البشر وجوديا وكيانيا، وقد يتعمم هدر الكيان في
هذه الحالة إلى هدر الجسد وحرمته وحدوده، وبالتالي استباحته ماديا ومعنويا، حيث
يصل التدهور إلى حد العيش على مستوى الآلة البيولوجية المحضة، ندخل هنا في حالة
الانكسار الكياني عندما يصل الهوان بالكيان إلى مستوى الشيء الذي يمكن ممارسة أي
شيء عليه، وهنا تنهار حدود الأخلاق والحرمات ويصبح كل شيء مباحا لدرجة الاستهتار.
ومن
حالات الهدر العام هدر الطاقات وهدر الوعي وهدر الفكر، وكلها تولد مآزق وجودية
كبرى يصعب على الإنسان تحمل قلق وذعر مجابهة جحيمها، لأنه ليس من اليسير على
الإنسان تحمل جحيم ألا يكون.
وقد
يُصيب الهدر العام الوعي الإنساني ذاته عند المحرومين ماديا، كما عند الميسورين أو
حتى المترفين، ذلك ما تحاوله العولمة على أن الاستبداد حين يصل حد الطغيان، وحين
تحيط المخابرات بالإنسان من كل مكان وتُحْصِي عليه أنفاسه، وحين يعتبر السلطان
أنه مالك للأرض وما عليها، وبالتالي مَنْ عليها، وأن كل غنم يصيب الإنسان ما هو
إلا مكرمة أو مِنَّة منه، وأن له الحق في التصرف بالموارد والثروات والمقدرات
والمصير والبشر، يهدر حق انتماء الإنسان ويُصَادِرُ حقه البديهي بالمواطنية، يصبح
الإنسان غريبا ذليلا في وطنه فاقدا للسيطرة على مجاله الحيوي، وبالتالي محروما من
الانطلاق الواثق في هذا المجال إلى مجالات أرحب، محروما كذلك من الانغراس
الذي يوفر الثقة القاعدية بالكيان والإحساس بالمنعة، تتحول المواطنة من حق أساس
إلى مِنَّة أو هِبَة يمكن أن تُسْحَبَ في أي وقت، وبالتالي يُسْحَبُ من الإنسان
الحق في أن يكون ويصير من خلال ممارسة الإرادة والخيار وحق تقرير المصير، إنها
كارثة وجودية أخرى بكل ما في الكلمة من معنى تجعل من أي مشاريع تنموية أو إنماء
عمراني حديث خرافة، ذلك أن الإنسان الْمُسْتَلَبَ في وطنه ومجاله الحيوي لا يمكن
أن يعطي وبالتالي أن يبني، يقنع في أحسن الأحوال بالتفرج السلبي في حالة من أقصى
درجات الغُرْبَةِ القاتلة، كما ينحدر الوجود إلى مستوى الرضا بمكسب مادي يغطي
الحاجات الأساسية البدائية للبهائم والعجماوات، وقد يستجيب الإنسان لهدر مواطنيته
وانتمائه في أن يتصعلك متنكرا لشرعية السلطان وناسه، وصولا إلى التنكر للوطن ذاته
في نوع من الهدر المضاد أو الانتقام من هَادِرِ إنسانيته، إلا أن أشد درجات الهدر
المضاد قد تتخذ طابع 'هدم الهيكل علي وعلى أعدائي' فيما بدا يشيع من سلوكيات تطرف
جذري جد خطير في المجتمعات العربية، وألوان الهدر هذه تفرض الموت الكياني، فكيف
يمكن عندها الحديث عن الديمقراطية والتنمية والإنماء والتحرير وصناعة المصير
والمكانة بين الأمم؟
إن
العرب ما زالوا يعيشون في ظل تشابك الأزمنة ما بين قبلي وحديث، وما بين النسيج
العصبي وقناع الحداثة، نعم هناك تكنولوجيا متقدمة في نظم المعلومات والتعامل،
وهناك هياكل تنظيمية إدارية واقتصادية ومجتمعية توحي بالعبور إلى الحداثة، إلا أن
النظرة المتأنية والمتفحصة تبين أن وراء هذه النظم العلنية الظاهرة نظما تقليدية
هي التي تمثل القوى الفاعلة والمحركة، وذلك في مختلف مجالات الحياة والنشاط
المجتمعي، والواقع أن هناك حالة من التداخل الفريد من نوعه ما بين المستويين،
ينادي المسؤولون بحكم المؤسسات وحكم القانون ونظم الإدارة الحديثة ومعلوماتها، إلا
أنهم يتصرفون انطلاقا من مرجعية العصبيات التقليدية، ويظهر ذلك في الكيل بمكاييل
مختلفة بين الناس في جميع أجهزة الدولة من إدارة وقضاء وجهاز أمن وغيرها، وذلك
بالرغم من وجود هيكل تنظيمي رسمي يتبع الأسس العلمية في الإدارة في كل إدارة عامة،
إلا أن القوة المحركة لا زالت تنبع من المؤسسة العصبية التحكمية وهيكلياتها
التقليدية، وهو ما جعل الإدارة العربية تعيش حالة من الازدواجية الفعلية ما بين
الظاهر الرسمي والخفي الفعلي، ما يحرك هذه الإدارة هي النظم العصبية على اختلافها:
قبلية، عشائرية طائفية، عرقية، إثنية، حزبية، عائلية، جهوية، إيديولوجية....إلخ،
وليست الإدارة وحدها هي التي تُسَيَّرُ بهذه النظم بل كل مؤسسات المجتمع، يتساوى
في ذلك الأحزاب والجمعيات الأهلية، والمنظمات الغير حكومية لما يسمى بالمجتمع
المدني، كلها تُسَيَّرُ بشكل خفي أو علني على أسس من العصبية الطائفية أو
العشائرية أو المناطقية أو العائلية أو الإيديولوجة إلخ....
وليست
أنظمة الحكم وحدها على هذه الحالة، بل إن المؤسسة العسكرية العربية تقوم على أسس
عصبية: إما طائفية أو قبلية عشائرية أو جهوية إلخ...، وتجد القيادات المسؤولة
صاحبة القرار ترجع إلى أصول عصبية من نوع ما، ومن هنا أخذ الميل يتصاعد لانتقال
السلطة ضمن العصبية نفسها متمثلة بعائلة ما، حتى في العائلات التي ترفع شعارات
العلمانية والحداثة وتنادي بحكم المؤسسات، الإبن أو القريب يرث الزعيم في زعامة
الحزب، كما في السلطة، ويستوي في ذلك اليسار واليمين والتقدمي والمحافظ، بل وحتى
الثوري والرجعي.
فالعصبية
تقوم بالأساس على الأحادية ولا تقبل التنوع، كما لا تعترف بالاختلاف، ولم يجانب
'أركون' الصواب حين قال: "إن العصبيات تُقِيمُ دولا ولكنها لا تستطيع بناء
أوطان"، ذلك أنها تقبل الرعايا وترفض استقلالهم كي يصبحوا مواطنين، وتقبل
الولاء لعزوة العصبية قبل الولاء للوطن.
إن
الاستبداد هو إبن العصبيات الشرعي، بل هو إبنها البكر والمفضل الذي يحميها ويضمن
لها الاستمرار، فالعصبيات التي تقوم على الشوكة والغلبة تُخْضِعُ سواها، وتختزل
الوطن كله في كيانها الخاص، من خلال نظم الاستبداد التي تمارس القهر وتتوسل
الإخضاع، مما يجعل الوطن ينحسر وينكمش كثقافة وكيان ضمن حدودها ذاتها، المستبد
يفرض هيمنة الفئة التي ينتمي إليها على بقية الفئات، وبينما يتهيب الحاكم في
البلاد المتقدمة الشعب والمجتمع، ويعبئ طاقاته كي يرتفع إلى مستوى ما يطرحونه عليه
من مسؤوليات، وُيثْبِتَ بالممارسة أنه جدير بالتفويض الذي أُعْطِيَ له من طرف
الشعب، نجد النقيض تماما هو الذي يحصل في بلاد الهدر حين يؤدي التحكم إلى فرض
السلطة والهيبة بشكل قاطع لا يقبل أي ظلال من الشك، ففي البلاد المتقدمة تستهلك
الشعوب حكامها من خلال التفويض وسحب التفويض والمساءلة والمحاسبة الشديدة، أما في
نظام الاستبداد العصبي، فإن الحكام هم الذين يستهلكون شعوبهم وأوطانهم ذاتها من
خلال توطيد وتأزيل سلطانهم.
إن
الطغيان والاستبداد هو الأصل في هدر إنسانية الإنسان قيمة وحقوقا وكيانا، ويتجلى
ذلك في أشد حالات الهدر كارثية من تصفيات فردية وجماعية واعتقال وتعذيب، وما يترتب
عن ذلك من تدمير للكيان النفسي للإنسان، ومن عجز جسدي فعلي وتصدع نفسي يخرجان
الإنسان من مجال الحياة الفاعلة والمشاركة المنتجة بعد تدمير الطاقات الحية
الجسدية والنفسية في هذا الكيان.
لقد
أجمعت الأدبيات والتقارير على أن قوة المعرفة هي أساس اقتدار المجتمعات، وأن درجة
الوعي ويقظته هي الضامن لنفاذ الرُّؤَى وفاعليتها واتساع أُفُقِهَا، لاستجابة
الحاضر وقضاياه واستشراف المستقبل ومتطلبات صناعته، ويعتبر هدر الفكر أهم ركن في
ثلاثية الهدر الأخطر (الوعي والفكر والطاقات)، لأنها تصيب حيوية المجتمع ونماءه في
الصميم، إذ هي تتركه في حالات الانكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية
المتنامية.
إن
هدر الفكر والوعي والطاقات، وما يتضمنه من فقدان للمناعة، يحول المجتمع إلى جثة
هامدة ميتة لا حياة فيها، وبالتالي عديم القدرة على مقاومة الاستبداد والعصبيات
واستفحالها، ولا يمكن لاستبداد أن يحكم سيطرته، ولا يمكن لعصبيات أن تستفحل
وتستنزف قوى المجتمع وموارده ومؤسساته إلا من خلال هدر الفكر والوعي والطاقات، من
هنا يتضح مدى إصرار الاستبداد والعصبيات على هدر هذا الثلاثي، وديمومة تحكم
الاستبداد والعصبيات تتناسب طرديا مع استفحال هذا الهدر الثلاثي.
وتشكل
ثلاثية هدر الفكر والوعي والطاقات الحالة الأعم لهدر الإنسان والمؤسسات، وبالتالي
كيان المجتمع ذاته، وتكمن خطورتها منهجيا في كونها تظل خارج بؤرة التركيز في تناول
قضايا المجتمع، حيث يُسَلَّطُ الضوء أساسا على الأبعاد السياسية من حرية
وديمقراطية وعلى الفساد الاقتصادي من نهب واستغلال ورشاوي، في حين كان من الأجدر
تسليط الضوء وتركيز البحث على هذا الهدر الثلاثي الخطير لأنه يشكل الشرط المسبق
لتهيئة التربة الخصبة لدوام الاستبداد.
تحاول
أنظمة الاستبداد والعصبيات والأصوليات الحجر على العقول، سعيا إلى تعطيل وعي
الشباب تحديدا وصولا إلى إلغائه، وذلك من خلال استراتيجيات التلاعب بالعقول، هذه
الاستراتيجيات التي تُسَخِّرُ أدوات التضليل الإعلامي وبرامجه لخدمتها، ويهدف هدر
الوعي عموما ووعي الشباب تحديدا إلى تَعْمِيَّةِ الرؤى وفي أقل الأحوال ضبابيتها،
وبالتالي الحيلولة دون تبصرهم فيما هم فيه من عَبَثٍ وَضَيَاعٍ، وفيما يجب أن
يكونوا عليه من مسؤولية.
إن
هدر كيان الشباب العام يترك المجتمع بدون حصانة تجاه مخططات الهيمنة الخارجية حين
تدخل حيز التنفيذ، أو يترك الشباب في الفراغ الوجودي وحياة اللامعنى نتيجة لهذا
التهميش عن القضايا العامة، اللذين يفاقمهما هدر طاقاته وكفاءاته، الشيء الذي يضعه
في وضعية التعرض لخطر انفجارات العنف العشوائية أو الوقوع في إغراءات الحركات
الأصولية المتطرفة، التي تزين له امتلاء الوجود الذاتي بقضايا تُسْبِغُ عليها
طابعا كونيا متساميا.
إذا
كان الهدر العام يتخذ طابعا صارخا، كما هو حال الاستبداد والتعذيب، وهدر الفكر
والوعي والطاقات، فإن حالات الهدر الخاص تندمج في نسيج الحياة اليومية، مما يجعلها
لا تتخذ طابع القضايا، بل تظل خفية تُعَاشُ على مستوى الوجود اليومي بمراراته
وخيباته وإحباطاته، والتي يكون عادة لكل إنسان منها نصيبه الخاص به، وليس هناك فصل
واقعي بين الهدر العام والخاص، فالكثير من حالات الهدر الوجودي في الحياة اليومية
هي في الأصل تجسيد للهدر العام، من مثل توالد الاستبداد العام على مستوى العلاقات
والتفاعلات اليومية، سواء في الزواج أم في العمل، أم في أساليب التفكير، فالتصدع
الأسري على سبيل المثال هو وليد التصدع الاجتماعي من ناحية، وهو يُعِيدُ إنتاج
ذاته في العلاقات الزوجية الـمُعَرَّضَةِ للتصدع عند الأبناء، كما أن هناك مجتمعات
يمكن أن تسميها عصابية، هي ذاتها مجتمعات أنظمة الهدر بكل امتياز، تُنْتِجُ على
المستوى الفردي مختلف حالات العصاب الفردي، وقد يكون من أبرزها إنتاج مجتمعات
القمع والاستبداد لعلاقات الاضطهاد العدواني في تفاعلات الحياة اليومية بين الناس،
ويندرج ضمن هذه الحالة العديد من الاضطرابات الجنسية والجسدية والنفسية المتولدة
عن أنظمة القمع الاجتماعي ذات التزمت المفرط لدرجة لا تطاق، وتقابلها في مجتمعات
الغرب الصليبي الصناعي أمراض لا تقل خطورة مثل الاغتراب النفسي المتولد عن الإفراط
في الفردية والأنانية التي تغرق في الذات لدرجة الانتحار.
يتمثل
القاسم المشترك لمختلف ألوان الهدر الوجودي في الحياة في فشل مشروع تحقيق الذات
وصناعة كيان في الوجود، فهناك الهدر الزوجي، وهدر الرغبة، وهدر المكانة والدور،
وهدر نوعية الحياة، وهدر الغربة داخل الوطن أو خارجه، في كل هذه الحالات يجد المرء
ذاته خارج تحقيق الذات في الحياة، وبالتالي يعيش واقعه وجدانيا وكأنه خارج الحياة
المليئة، بمعنى أن الإنسان العربي متخم بالهدر لدرجة تدعو إلى الانتحار، وهو ما
يبدو حاليا في ارتفاع نسبة قتل الذات في هذه المجتمعات.
ومن
المعروف أن تحقيق الذات هو على قمة هرم الحاجات الإنسانية جميعا، من خلاله يكتسب
الوجود صفة الامتلاء، وهو إن لم تتوفر وسائله وأساليب المعافاة قد يتخذ أشكالا
مرضية أو جانحة، ولا يحقق الإنسان ذاته في قطاع واحد فقط بل يكون لديه عادة شبكة
من المجالات في الإنجاز المهني والعاطفي، والزواج، والوالدية، والرفاء
المادي...إلخ، وتتفاعل عناصر هذه الشبكة فيما بينها بشكل متبادل التَّأَثُّرِ
وَالتَّأْثِيرِ، وبالإيجاب كما بالسلب، وقد تُتَّخَذُ كوسائل لتعويض بعضها بعضا.
هنا
تبرز حالات الوجود المعوق أو الوجود المفرغ من كثافته ومن كل معنى على شكل حياة
عبثية ومضيعة، واجترار خيباتها وإحباطاتها ومراراتها، وهو ما يولد أزمات نفسية
متفاوتة الخطورة، من هنا يمكن تفسير عدوانية الإنسان المهدور وافتقاده للعقلانية
والمنطق والحوار الرزين.
ويحاول
الإنسان المهدور تجنب البقاء في هذا الواقع الذاتي الذي يتعذر احتماله، من خلال
اللجوء إلى العديد من الآليات الدفاعية التي تتنوع بشكل يفلت من الحصر، وصولا إلى
الاحتفاظ بشيء من التوازن الذاتي الذي يجعل الحياة قابلة لأن تُحْتَمَلَ.
إن
الخسارة التي تلحق بكيان الإنسان المهدور في فكره ووعيه وطاقاته الحية، هي خسارة
قد تصل حدا من فداحة الآثار يصبح معها كل حديث رائج في الحرية والديمقراطية
والتنمية مجرد حديث في فراغ، في حين تعصف بكيان المجتمع وأبنائه مختلف حالات فقدان
الحصانة والمناعة بسبب وطأة الهدر واستفحاله.
تتصف
التجربة الوجودية لأحد أصحاب الشهادات، التي ترتكز حول المعاناة من الاستبداد
واليأس والعزلة، والقلق ومشاعر التهديد، وهو يستجيب بالتقوقع لحماية ذاته من
القطيعة، ويعاني من الحزن العميق للوعي بما يجري من إعجاب الناس بالسلطة واستلابهم
بكل ما هو خطأ، بديلا من الاعتزاز بالوطنية، تنقلب القيم، وتُصاب اللغة بِالزَّيْفِ
وَالفُصَامِ من خلال الترويج لوهم العيش في فردوس عهد المستبد، حيث لا شيء يمت
للوطنية بصلة، حيث لا مكان ولا مكانة لأي صاحب موقف، يتقوقع على ذاته ويحاول إيجاد
نوع من التوازن من خلال إبداعه الأدبي، ولكنه يُصاب بجرح نرجسي إزاء تواطؤ الناس
مع السلطة ضد المبدعين، نتيجة الاستهانة بالذكاء، حيث يحس المرء بأنه قد يُدَاسُ
في أي وقت، وَيُصَابُ بِالذُّعْرِ نتيجة الفجوة الهائلة ما بين الرؤية المستقبلية
والواقع، حيث يشيع الولع بابتكار الأوهام وبنائها وإقناع الناس بها، ويصاب بالذعر
إزاء خطر التحول الأخلاقي وَالقِيَمِي نقيض القيمة المعنوية والأدبية نتيجة لسعر
الإنسان في سوق الولاء، وينأى بنفسه عن الانهيار الأخلاقي الذي يمس بني آدمية
الإنسان، وفقدانه المعنى والقيمة، حيث لا غضاضة للمُسْتَلْزَمِينَ من بيع أنفسهم
بلا وازع ولا كرامة، والوقوع في دلالة المتاع المعروض في السوق، ذلك أنه غير مسموح
للإنسان أن يكون بذاته ولذاته، بل يتعين أن يكون للسلطة ومن خلالها، حيث لا معنى
لوجود الإنسان إلا مع السلطة باعتباره من الرقيق (العبيد) بقشرة سطحية حضارية.
أما
سلطة الاستبداد فهمها الأول توسيع القطيع كهدف دائم لها، حتى الجامعة تتحول إلى
معسكر وحضانة، ويتحول الطلاب إلى كائنات وحشية يجب أن تُدَجَّنَ، ويتحول الأساتذة
إلى جنود المماليك، بحيث يُصْبِحُ كل لقاء أو محاولة مشاركة خيبة أمل وصدمة،
وَتُثَارُ في النفس ردود الفعل الجنونية المتطرفة، وكأن الإنسان قنبلة موقوتة، ولا
يجد من وسيلة لحماية الذات سوى التحصن بعدم الاكتراث، ذلك أنه سيحترق لو اكترث
وَيُصَابُ بالخذلان والفناء المعنوي.
وتعبر
طائفة أخرى من الشهادات عن الاستسلام للأقدار، والغرق في حالة الكائن المغلوب على
أمره، ضحية التَّنْكِيلِ وَالتَّشَفِّي من قبل الرؤساء، حيث لا مجال سوى الرضوخ،
وتفاقم الشعور بانعدام السيطرة على المصير، وبأن الإنسان ضَائِعٌ وَمُضَيَّعٌ،
وتفجر حالة الخنوع والهزيمة هذه أزمة كبرى، هي أقرب إلى البركان الذي يغلي، بسبب
المعاناة التي لا نهاية لها، لحالة انعدام الحصانة والاعتبار والحدود، إنه جحيم لا
مخرج منه بإزاء الرغبة في أن تكون والعجز عن تحقيقها، يقول أصحاب هذه الشهادات بأن
العربي يضع نظارات كي يُخْفِي ذاته، فأنت لست أنت، أنت لا تعيش ذاتك، وأقوى جُرْحٍ
عندنا وأكثر إيلاما هو ضرب احترام الذات.
هذه
فقط نماذج تعكس شهادات مجموعة من المثقفين والأكاديميين والمهنيين أي ما يسمى
بالنخبة، فما بالنا بتجربة المهدورين ممن هم دون خط الفقر، وكذلك المهدورات من
النساء، لا شك أن الكارثة الوجودية في هذه الحالة ستكون أكثر فجاعة، والآلام
النفسية والمعنوية الناجمة عنها أكبر بما لا يُقَاسُ وأخطر مما يُتَصَوَّرُ.
المدون
بتصرف عن مؤلف 'الإنسان المهدور' للدكتور مصطفى حجازي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق