معنى أن يكون المرء ثرثارا مملا

"إِنَّهُ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ يَسْمَعَ شَعْبٌ ثَرْثَارٌ الصَّوْتَ الصَّامِتَ لِخُطَى الوَقْتِ الهَارِبِ" مالك بن نبي رحمه الله
معنى أن يكون المرء ثرثارا مملا
لم يكن سني يتجاوز الأربع سنوات لما دَرَجَتْ والدتي على أن ترافقني معها إلى الحمام الشعبي البخاري للحومة، وهو المكان الذي عرفت فيه معنى أن يكون المرء ثرثارا مملا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث لو كنتُ على شفا حفرة من الرَّدَى وَصِحْتُ بأعلى صوتي أنقذوني لم يسمع ندائي أحد، وسط كل تلك الجلبة والصخب والضوضاء والصراخ والمهاترات والضحك وقرع الأواني والأسطل وصراخ الأطفال.
وبالرغم من ذلك وفي خضم هذه الفوضى الخلاقة كنت أسترق حديث المستحمات اللائي كن جد ثرثارات لدرجة أن فراملهن كانت معطوبة، ولم تكن قادرات على كثمان حتى أسرارهن الأكثر حميمية،  بحيث كان يخيل لي أني أبكم وسط معركة حامية الوطيس سلاحها الفتاك اللسان وما أدراك ما اللسان، ووقودها عثرات وعيوب وعورات الناس.
وبمجرد بلوغي سبع سنوات، أي عندما صرت رجلا مسؤولا عن نفسي ولست  مسؤولا عن أحد، صرت أرافق والدي رحمه الله، إداك لاحظت فرقا شاسعا ما بين حمام النساء وحمام الرجال، فبينما تسود الأول فتنة لسانية لا نظير لها لا في عالم الإنس ولا في عالم الجن، لاحظت على العكس من ذلك هدوءا وسكينة ووقارا كانوا يجعلونني رغم حداثة سني أدور لساني سبع مرات في فمي قبل أن أنطق بكلمة قد تكون في غير محلها، أو قد تُؤْدِي سمع من هو جالس بالقرب مني.
ومرت الأيام والسنون وجرت مياه كثيرة تحت جسر الحياة، فالتحقت بالإدارة الغدارة، وبهذا الاختيار كنت قد ارتكبت خطأ فادحا في حياتي، لما صرت عبدا مشرط الأحناك  لبنت الحرام هذه التي لا تعترف بالجميل إلا لأبناء الحرام من أمثالها، إلا أن ذلك لم يمنع في أن تزداد خبرتي ومعرفتي في معنى أن يكون المرء ثرثارا مملا، بحيث كنت ألاحظ طيلة مساري المهني أن الكم الهائل من المحاضرات، والخطب الرنانة، والمحادثات والاجتماعات، وما أدراك ما الاجتماعات، بخبرائها ومسؤوليها وبتقاريرها ومحاضرها، لم تكن تنتج في غالب الأحيان إلا فيما نذر غير السراب والضباب والكذب المسربل المبثوث في عش الغراب.
إضافة إلى كل ما قيل، فقد كانت لدي دائما وأبدا حساسية جد مفرطة اتجاه الثرثارين والثرثارات الذين ملأوا الإدارة عن بكرة أبيها وحتى أمها وأختها وأبناء وبنات أخوالها وأعمامها، وشغلوا فيها كل المناصب الفوقية الثرثارية، الذين بالرغم من عنجهيتهم وصلفهم وأبهتهم الفارغة و'الجَلاَّبَة وُمَنْ تـَحْتْهَا الـخْوَا'  كما قال يوما سي المهدي المنجرة رحمه الله، كانوا يبدون لي مثل قطارات أفلام الويسترن المهترئة، التي على العكس من واقعها المزري تحاول أن تبدو وكأنها قطارات فائقة السرعة تسير بسرعة مفرطة، إلى أن تخرج عن السكة على هذا المنعرج أو ذاك يوما ما طال الزمن أم قصر، وأنظر إليها آنذاك وأقول لها كما قالت الأوائل في زمن الرسائل قبل ظهور الأنترنت أبي الرذائل: إنني بخير وعلى خير ولا ينقصني إلا النظر في وجهكم العزيز.
وفي خضم هذه الأجواء الإدارية القشيبة والبهيجة، كنت أُبْتَلَى بين الفينة والأخرى بتسلط بعض ممثلي شركات بيع الموسوعات الورقية الأدبية والعلمية والتقنية -وذلك قبل أن يُسْقِطَهَا العالم الرقمي بالضربة القاضية ويشيعها إلى مثواها الأخير- الذين جزاهم الله خير الجزاء لأنهم فتحوا لي آفاقا رحبة في الوقوف عن كثب على معنى أن يكون المرء ثرثارا مملا، بحيث بمجرد ما يقف أحدهم أمامي حتى ينطلق جهاز تسجيل من داخل جوفه بطريقة أتوماتيكية، ينطق الجمل بدون فواصل ولا نقط، ليرسل عَلَيَّ لسانه مدرارا مهذارا، وبدون راحة ولا استراحة في تمجيد وتحسين منتوج شركته، وكأن به عبارة عن طاحونة للكلمات، يتكلم بسرعة فائقة ولا يفسح لي المجال للنطق ولو بجملة واحدة، وإن حدث فهو لا يستمع إلى كلامي أبدا، أنا الذي جعلت الصمت لي شعارا والثرثرة عارا، ولا يتوقف عن ثرثرته ناقص العقل هذا الذي افترش لسانه حتى أكاد أجن وأفقد صوابي وأحمله وأرمي به من النافذة، غير أني كنت متبصرا لما أنهيت هذه المهزلة بهدوء وتؤدة، وصرت كلما وقف أحدهم ببابي لوحت إليه بإشارة سريعة من يدي بأنني غير مهتم.
وبحكم تجربتي المتواضعة أضحت كثرة الكلام تؤذيني، ولَكَمْ كنت أتمنى أن أنصت إلى ثرثرة الورود والأزهار ولو على موضوع الموت الذي يُفْزِعُ الثرثارين والثرثارات، عوض أن يقصفني ثرثار أو ثرثارة بكلام بلا نهاية لن أجد فيه أبدا كلمة لا أعرف !! وإِنَّهُ لَمِنَ الصَّعْبِ أَنْ يَسْمَعَ شَعْبٌ ثَرْثَارٌ الصَّوْتَ الصَّامِتَ لِخُطَى الوَقْتِ الهَارِبِ كما قال مالك بن نبي، وكما قال أيضا الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:
الدَّهْرُ يَصْمُتُ وَهْوَ أَبْلَغُ  نَاطِقٍ        مِن  مُوجِزٍ  نَدُسٍ  وَمِنْ  ثَرْثَارِ
يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ مِنْ  ظَلْمَائِهِ       وَنَهَارِهِ     مَا     هَمَّتَا    بِعِثَارِ
ضَنَّتْ يَدَاهُ وَتِلْكَ  مِنْهُ  سَجِيَّةٌ        أَنْ  تُجْرِيَا  أَحَداً  عَلَى  الإِيثَارِ
وكما قالت الأوائل: إِذَا اجْتَمَعْتَ إِلىَ حَكِيمٍ فَانْصِتْ إِلَيْهِ، وَإِذَا اجْتَمَعْتَ إِلىَ عَاقِلٍ فَتَحَدَّثْ مَعَهُ، وَإِذَا اجْتَمَعْتَ إِلَى سَخِيفٍ ثَرْثَارٍ فَقُمْ عَنْهُ وَإِلاَّ قَتَلَكَ! فمثل هذا الثرثار يجوز فيه قول الشاعر المجدد إيليا أبي ماضي في قصيدته 'الشاعر والملك الجائر':
قَدْ طُبِّعَ  السَّيْفُ لِحَزِّ الرِّقَابِ      وَهَذِهِ        رَقَبَةُ       ثَرْثَارِ
أُقْتُلْهُ وَاطْرُحْ جِسْمَهُ لِلْكِلاَبِ      وَلْتَذْهَبِ   الرُّوحُ  إِلَى   النَّارِ
وعلى كل حال فإن الإنسان حيوان ثرثار كثير النطق يـحب الظهور والتبجح والحديث بلا انقطاع في جميع الأمور حتى في التي يجهلها، في مجتمعات مريضة بداء فقدان المناعة للمظاهر والأبهة الخاوية، لذلك دأبت هذه المجتمعات على خلق المناسبات والاحتفالات والأعراس والسهرات والندوات والمحاضرات على طول العام، لكي تشبع شهوة الكلام في تمارين اللسان على القفز والجريان حتى في أتفه المواضيع التي لا تُثير سوى إعجاب العبيد والأقنان، فالويل كل الويل لهذه الأمة التي يكون عاقلها أبكم وقويها أعمى ومُحتالها ثرثار، وكما قال الشاعر المصري إبراهيم محمد نجا:
للِنَّاسِ فَلْسَفَةٌ حَمْقَاءُ  جَاهِلَةٌ     وَلَسْتُ أُبْصِرُ فِيهِمْ غَيْرُ ثَرْثَارِ
وكما قال أيضا الكاتب والباحث والشاعر المصري محمد عبد الغني حسن:
أَقِيمُوا  الْحَقَّ بَيْنَكُمُو  مَتِيناً       فَلَيْسَ   بِغَيْرِهِ  لَكَمُو  قِوَامُ
وَنَحُّوا   كُلَّ  ثَرْثارٍ  بَغِيضٍ      بِضَاعَتُهُ اللَّجَاجَةُ  وَالْخِصَامُ
فَمَا فِي الوَقْتِ مُتَّسَعٌ لِهَذْرٍ       يُؤَجِّجُهُ  السِّبَابُ  وَالاتِّهَامُ
فإذا وجدتَ الإنسان قليل الكلام هادئاً ولا يُخرج الكلمة إلا بحساب، فاعلم أنه أُوتِيَ علماً وفهماً، و إذا وجدتَ آخر كثير الكلام ثرثاراً، فاعلم أنه خاوٍ عن العلم وأبعد الناس عن حقيقته، وهو كمثل ضفدع ينق بالليل والنهار بلا انقطاع، تجب مساءلته على حق قدره بأسئلةٍ مُغْلَقَةٍ على الطريقة الأمريكية والكندية التي لا تحتمل سوى إجابتين بإحدى الكلمتين فقط: نعم أو لا، حتى لا ينفتح في الثرثرة والكلام غير المفيد ويتفرع فيه تفرعا طوفانيا ليهلكني ويهلك معي الحرث والنسل.. ألا أهلكه الله وحده وجعل كيده في نحره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق