أبطال بلا مجد

 
ليس هنالك شيء آمن، فالحياة نفسها هي حالة من انعدام الأمان المطلق، فرغم ما يؤكده يوميا اللوبي النووي من أحاديث وندوات ومحاضرات فضفاضة وترنيمات براقة حول أمان التكنولوجيا النووية ونظافتها، فإن خطر حدوث كوارث نووية أمر وارد وحقيقي نظرا لعدم تحمل المحطات النووية لقوة زلازل مدمرة وأمواج تسونامي الضخمة خاصة المحطات المتقادمة، هذا إضافة إلى الأخطاء البشرية والتقنية التي لا يمكن تفاديها مطلقا، لقد بلغ عدد المحطات النووية حول العالم 199 محطة نووية تأوي 440 مفاعلا نوويا، من بينها 98 مفاعلا نوويا يفوق عمره 30 سنة، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية على رأس القائمة ب 65 محطة نووية تأوي 104 مفاعلا نوويا، تليها فرنسا ب 19 محطة نووية تأوي 58 مفاعلا نوويا، ثم اليابان ب 19 محطة نووية تأوي 50 مفاعلا نوويا، فروسيا ب 10 محطات نووية تأوي 19 مفاعلا نوويا...إلى آخر القائمة.

ولعل كارثة تشرنوبيل التي ما تزال ماثلة في الأذهان توضح على أن التكنولوجيا النووية هي بطبيعتها هشة لكونها تنفذ عددا لانهائيا من العمليات أكثر تعقيدا من بعضها البعض، مما يفتح المجال لمصادر متعددة من الحوادث الغير متوقعة ويجعل البشرية كقش في سافلة سد هار يحجز سيلا جارفا، يتحمل المخاطر الكبرى للطاقة النووية دون أن توفر له الأمان المنشود، وكارثة تشرنوبيل عبرة لم يريد أن يعتبر:
في يوم الجمعة 25 أبريل من عام 1986 على بعد 3 كيلومترات من مدينة 'بريبيات' بأوكرانيا، تلقى عمال الوحدة الرابعة بالمحطة النووية 'إيليتش لينين' تعليمات لتجربة نظام التغذية الذاتية للمفاعل النووي من أجل الاقتصاد في الطاقة، وفي تمام الساعة الواحدة و 23 دقيقة صباحا ابتدأت التجربة في غياب أنظمة الأمان و دون اتخاذ كافة قواعد السلامة والأمان الواجب اتخاذها في هذا النوع من التجارب، حدثت فجأة مجموعة من التفجيرات في قلب المفاعل النووي بينما كانت مدينة 'بريبيات' تغط بسلام في نوم عميق، فبدأت أرضية المفاعل النووي بالاهتزاز تلاها قذف غطاء المفاعل النووي الذي يزن 1.200 طن في الهواء كأنه قطعة حلوى، مما أدى إلى تصاعد بخار قوي ومشع بأطنان من اليورانيوم والجرافيت، انتشر بسرعة في محيط مئات من الأمتار حول المحطة النووية، تلاه بعد ذلك حزمة من النيران القوية المحملة بغازات وجسيمات منصهرة ارتفعت إلى أكثر من ألف متر فوق المنشأة النووية المبقورة، هذه الغازات والجسيمات الجد مشعة التي ستتجول سائحة على بساط الريح في جميع أرجاء أوروبا إلى درجة وقوفها على أبواب شمال أفريقيا والشرق الأوسط، متسببة في وفاة 16.000 شخص حسب الوكالة الدولية لبحوث السرطان، ومحدثة موجة من الخوف والهلع بين الناس في جميع أرجاء العالم، لقد خرجت الذرة عن السيطرة في أضخم كارثة نووية في التاريخ البشري، إذ تم تصنيفها في المستوى 7 للمقياس الدولي للحوادث النووية، ولم يكن أحد ينتظرها بهذا الحجم وبهذه الضخامة.
 كانت المحاولات الأولى المستميتة لرجال الإطفاء تبدو بلا جدوى أمام مارد خرج من قمقمه رغم سكب أطنان من المياه على النيران الجهنمية المستعرة، بحيث أضحت تدخلاتهم هذه انتحارا حقيقيا نظرا للجرعات القاتلة من الإشعاعات التي اكتنزتنها أجسادهم، مما أدى إلى وفاة اثنين منهم في نفس اليوم وسبعة وعشرون آخرون في الشهور القليلة التي تلت الكارثة، إنهم أول ضحايا تشرنوبيل، وخلال السبعة أشهر التالية تم تجنيد 100.000 عسكري من جميع الرتب من جنرالات وضباط وضباط صف وعسكريين و 400.000 مدني من جميع الطبقات الاجتماعية من مهندسين وأطباء وعلماء وفلاحين وعمال أُطْلِق عليهم اسم 'قاتلو الإشعاعات' لأنهم سوف يقتفون أثر الإشعاعات في كل مكان قصد إزالتها وتنظيف أمكنة تواجدها، بحيث قاموا بقتل جميع الحيوانات المتواجدة بالمنطقة وتدمير كل القرى والبيوت الملوثة، جيش جرار أكبر من جيش نابوليون في مواجهة وجها لوجه ضد عدو فتاك غير مرئي في أول معركة من نوعها في التاريخ، معركة حامية وخطيرة بكل المقاييس لأنها كانت تهدد قارات وليس دولا صغيرة، وبعد مرور 8 أسابيع على حدوث الكارثة انصب اهتمام 'قاتلي الإشعاعات' على قلب المفاعل النووي من أجل إيقاف سمومه التي ينفث بها في الهواء، فكانت فكرة المهندسين الروس هي عزل مجموع المفاعل النووي داخل منشأة ضخمة من الخرسانة المسلحة على شكل تابوت بطول 270 م وارتفاع 66 م، في ظروف جد صعبة لم يسبق اجتيازها من ذي قبل، لاستحالة العمل بطريقة مستمرة، إذ لم يكن بوسع المتطوعين سوى العمل لبضع دقائق معدودات قصد تجنب المستوى الإشعاعي القاتل للمفاعل الثائر، وعلى الرغم من هول الكارثة، فلا الإعلام الغربي ولا الإعلام العربي أولاها الاهتمام اللازم بنفس الطريقة ونفس الحماس ونفس الاندفاع، وبكل ذلك الكم الهائل من التوثيق ومن البرامج التي استضافت كل تلك العجعجة من كلام 'الـخْبَارَى' و 'المتحللين' عفوا الخبراء والمحللين السياسيين حول 'الخريف العربي'.
 لقد تجرع جيش دولة بكامله مستويات متفاوتة الخطورة من الإشعاعات إضافة لآلاف الضحايا من المتطوعين المدنيين الذين تلقوا جرعات قاتلة، ولكنهم رغم ذلك حاربوا حتى آخر رمق من حياتهم، لم يعرف عنهم أحد شيئا بعد ذلك وطوتهم ذاكرة النسيان، إن هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون الذين  بتضحياتهم  استطاعوا إنقاذ بلدهم وتجنب حدوث انفجار ثان في قلب المفاعل النووي تبلغ قوته عشرة أضعاف انفجار قنبلة هيروشيما، كان بإمكانه أن يأتي على الأخضر واليابس ويُفني نصف سكان أوروبا، لقد بقي هذا الخبر سرا مدفونا في أقبية الدولة الروسية مدة عشرين سنة بعد الكارثة، حتى أبدت لنا الأيام ما كان مجهولا وأتانا بالخبر من لم نزود.    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق