كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟

إليك أيها الغريب الذي إذا دَعَوْتَ لم تُجَب، وإذا استهبت لم تُهَبْ، يا من إذا اسْتَوْحَشَ اسْتُوحِشَ منه حتى يرى ثوب الأمانة ممزقا، ورداء العفة مخترقا، وطريق الفضيلة مهجورا مشققا، يا من يجد ما بقلبه من الغليل محرقا، ماذا  بإمكان كل العالم أن يُفيدك؟، لا شيء... إن مسرحية الحياة الدنيا هذه لم تكتمل بعد، فكلنا  لا زلنا نعيش أحداث  مشهدها الأول، ولا بد لها كي تكتمل من مشهد ثان، في أبعاد أخرى نجهلها، سيكون مختلفا  كليا عن المشهد الأول، لأن في المشهد الأول هنالك ظالمون ومظلومون ولا أثر للإنصاف، و هنالك غالبون ومغلوبون ولا وجود للانتقام، وهنالك مستعلون ومستضعفون ولا أثر للعدالة، إليك أهدي هذه القصة للكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف، الفيلسوف المتواضع الزاهد، حتى لا تقول بأنك الغريب الوحيد، فطوبى للغرباء:
آه لو كنت أملك قطعة صغيرة من الأرض لكنت الآن هانئ البال قرير العين لا أخاف حتى رئيس الأبالسة، قالها الفلاح باهوم، وكان إبليس على مقربة منه، فسمع حديثه وابتسم ضاحكا وعزم على تلبية طلبه كي يورده موارد التهلكة من حيث أطعمه، أصبح باهوم يُقيمه الطمع ويُقعده ولا هم له إلا امتلاك أرض يصبح فيها صاحب الكلمة المطلقة والآمر الناهي كما تبتغي وتثوق إليه نفسه، وكان بالقرب من أرضه الزراعية قطعة فسيحة من الأرض لسيدة طيبة القلب لينة العريكة، اعتادت على معاملة جيرانها بلطف وإنسانية، إلا أنها شغلها أمر ذو بال على تعهد الأرض بنفسها، فوكلت أمر زراعتها واستغلالها لوكيل أعمالها الذي كان على جانب عظيم من الخشونة وقسوة الطبع، فأخذ يُذيق ضِعاف القرويين جيرانه مر العذاب ويثقل كاهلهم بالغرامات التي كان يفرضها عليهم من حين لآخر، وقد حرص باهوم كل الحرص على منع أسباب الاحتكاك بجاره الغليظ الطبع، ورغم كل ما كان يبذله من احتياطات وتحرز كانت بعض ماشيته تتسرب إلى المزرعة فيقع بينه وبين الوكيل أخد ورد ينتهي في الغالب بغرامة يتحملها المسكين طائعا صاغرا.
أقبل الشتاء ببرده القارس وابيضت قمم الجبال وانكمشت الماشية في زرائبها، فارتاح بال باهوم وعاش آمنا في سربه طوال فترة الشتاء، ثم شاع في القرية أن السيدة صاحبة المزرعة عزمت على بيع أرضها صفقة واحدة، وتلا هذه الإشاعة خبر مفاده أن صاحب الفندق القائم على الطريق العالية يساومها في شراء المزرعة، فذُعِر أهل القرية لهذا الخبر وتوجسوا منه خيفة، لأن صاحب الفندق كان أغلظ طبعا من وكيل السيدة، فجمعوا جموعهم وتشاوروا بينهم في الأمر، فاستقر رأيهم على تأليف لجنة تقوم بشراء الأرض، فقبلت السيدة ولم تمانع، إلا أن الشيطان أوغر صدور بعضهم على بعض، فتخاذلوا وفشلوا في مهمتهم، وعزموا في الأخير على شراء المزرعة قطعا بدل شراءها صفقة واحدة، وأن يساوم كل منهم سيدة الأرض في القطعة التي يروم شراءها، جرى كل ذلك وباهوم ساكت لا يحرك ساكنا، ينظر تائها إلى المزرعة وهي تبُاع قطعة تلو القطعة، إلى أن جاء يوم وقد سمع أن أحد جيرانه ابتاع من السيدة قطعة من المزرعة تبلغ واحدا وعشرين هكتارا، دفع نصف ثمنها نقدا وتعهد بدفع الباقي أقساطا لمدة سنة، فناجى نفسه قائلا: " إلى متى أظل ساكنا والأرض تُباع؟"، ثم حَدّث امرأته بآماله وخاطبها قائلا: "ألا ترين كيف أن أهل القرية يتهافتون على شراء المزرعة ونحن هنا لا نحرك ساكنا، كلا إن هذا لا يُطاق يجب أن نسعى في شراء قطعة من الأرض ولو ثمان هكتارات على الأقل، سيما وأن الحياة أصبحت عبئا ثقيلا بمضايقة هذا الفظ وكيل السيدة، ثم فكرا كثيرا في الأمر واستقر رأيهما أخيرا على الشراء، ولم يكن عند باهوم سوى بضع عشرات من الروبلات، فباع مهرة كانت عنده وباع كذلك نصف ما لديه من خلايا النحل وبعض أثاث المنزل، وأجر اثنين من أولاده في إحدى المزارع لمدة عام، وأخذ أجرتهما مقدما ثم اقترض الباقي من أحد أنسباءه، فتوفر لديه مبلغ من المال يمكنه من شراء قطعة صالحة من الأرض، ذهب إلى السيدة وساومها في قطعة من الأرض تبلغ ستة عشر هكتارا ونصف وفيها أجمة صغيرة، واتفق معها على دفع نصف الثمن فورا وتعهد بدفع الباقي أقساطا على سنتين وحرر على نفسه وثيقة بالمبلغ.
تمت عملية البيع وسجلت بمحكمة البلدة ووضع باهوم يده على الأرض ثم مضى العام وكان المحصول جيدا فوفى ما عليه من الديون، وبذلك أصبح يملك قطعة من الأرض كثيرة النماء تسر الناظرين، وكان كلما مر بأرضه الجديدة رقص قلبه طربا ونظر إليها بغير العين التي كان ينظر إليها من قبل، فعاش ردحا من الزمن لا يعكر صفو حياته إلا تسرب مواشي الجيران إلى الحقل من حين لآخر، ولولا هذا المشكل لكان هناءه أتم، احتمل ذلك في بادئ الأمر واكتفى بتحذير أصحاب المواشي، غير أن ذلك لم يُجْدِ نفعا، فعمد إلى التقاضي وأدى به الأمر إلى مشاكل عديدة أحقدت عليه صدور أهل القرية، فأخذوا يعادونه سرا وجهرا أو يطلقون مواشيهم ترتع في مراعيه عمدا بعد أن كانت تتسرب من نفسها على غير قصد، ثم هموا أخيرا بإحراق مزرعته وإيصال الأذى إليه بطرق شتى، مما أدى إلى شدة البغضاء واتساع الجفوة والعداء، ففقد هناءه القديم وأصبح مشغول البال لا يغمض له جفن ولا يهنأ له عيش، وشاع في ذلك الوقت أن هناك أرض زراعية جديدة عرضتها الحكومة للاستثمار، وأن الناس من جميع القرى يهاجرون إلى تلك الأراضي، ففكر باهوم في نفسه وقال:"فليهاجر من أراد من أهل القرية أما أنا فلا أبرح مكاني وسوف أنتهز هذه الفرصة لتوسيع ممتلكاتي فاشتري بعض الأرض التي يتركها أصحابها"، وبينما كان باهوم يمني النفس بهذه الآمال نزل بضيافته قروي كان مارا بعزيبه فأكرم ضيافته، وسأله أين كان، فأخبره القروي أنه كان يشتغل في أراضي الفولجا التي كانت تستعمر حديثا هناك مطنبا في وصفها بالخصوبة والجودة وزاعما أن الشيلم الذي يزرع في تلك الأراضي ينمو حتى يصير طوله أعلى من قامة الفرس، ثم أضاف قائلا: "إن أولياء الأمور هناك يتبرعون بعشر هكتارات ونصف لكل من أراد استثمار تلك الأراضي الخصبة، وأن رجلا من أهل قرية باهوم حضر تلك الجهات صفر اليدين خالي الوفاض، فأصبح الآن يمتلك ستة خيول ورأسين من البقر"، فقال باهوم في نفسه ما الذي يمنعني من هجر هذه البقعة الضيقة إلى تلك البقاع الفسيحة حيث الربح الوافر والثراء العاجل، وأني لأكونن من الحمقى إذا لم انتهز هذه الفرصة السانحة، ولكن علي أن أتحقق من الأمر بنفسي أولا، كان الوقت شتاء، فقعد ينتظر أوائل الصيف، حتى إذا حل فصل الربيع كان قد أتم معدات السفر، فركب زورقا بخاريا أقله حتى سمارا ومن تم قطع ثلاثمائة ميل على أقدامه حتى وصل إلى المكان المقصود، فوجد الأرض كما وصفها القروي، وعلم أن الفلاح المستثمر يُعْطَى قطعة من الأرض لا تقل مساحتها عن عشر هكتارات ونصف، وأن هناك أرض أخرى معروضة للبيع قيمة نصف هكتار منها لا تزيد عن ثلاث روبلات، ففرح باهوم بهذا الاكتشاف، وقفل عائدا إلى قريته بعد أن تحقق من صدق الخبر، وما إن وصل إليها حتى شرع في بيع ممتلكاته وتهيئة ما يلزم للهجرة هو وأفراد عائلته.
وفي أوائل فصل الربيع سافر إلى مقره الجديد وحط الرحال في قرية كبيرة من قرى تلك الأراضي، وكان حظه منها هو وأولاده خمسة أنصبة بلغ مجموعها اثنان وخمسين هكتارا ونصف في جهات متفرقة من القرية التي استوطنها، أي أضعاف ما كان يملكه في قريته الأولى، فأصبح لديه حقل واسع ومرعى فسيح ترتع فيه الكثير من الماشية، ثم مضت أيام اشتغل أثناءها باهوم بتخطيط المزرعة وبناء العـزيب وشراء الدواب اللازمة للعمل، فكان في بداية هجرته قانعا بحياته الجديدة فرحا بما رزقه الله، إلا أنه ما كاد يتم ما شرع فيه حتى تسلط عليه الطمع ثانية، فصار ينظر إلى أرضه بعين الاستصغار، زرع في عامه الأول قمحا فكان المحصول وفيرا فطمع في الزيادة غير أن الأرض لم تُسْعِفه بطلباته لأنها كانت تتفاوت في خصوبتها، ولا تصلح جميعها لزراعة القمح، فعول على إيجار أراضي أخرى تصلح لذلك، ففعل غير أن ذلك لم يرق في عينيه أيضا، وكان يشكو من بُعْدِ الأرض وصعوبة التنقل، ثم فكر في نفسه قائلا: "لو كنت اشتريت قطعة مستقلة خارجة عن نطاق المشروع فأبني عليها ضيعة صغيرة لكان لي من وراء ذلك فوائد جمة"، وكانت هذه الفكرة ماثلة بذهنه يفكر فيها من حين لآخر، ثم سار على هذه الوثيرة، يستأجر أرضا يزرعها قمحا مدة ثلاثة أعوام، فكان الدهر مواتيا له وربح أرباحا كبيرة لجودة المحصول، إلا أن ذلك كله ما كان ليقلل من طمعه، بل كان يزداد تذمرا كلما فكر في المال الذي يصرفه لتأجير الأرض، وحدث أن أجر في العام الثالث قطعة أرض هو وأحد التجار من بعض القرويين، وما لبث أن وقع له خصام مع شريكه أذى بهما إلى التقاضي وأسفر عن خسارتهما، فتذمر باهوم وقال مع نفسه:" كل ذلك ما كان ليقع لو أن الأرض كانت ملكي وحدي".
منذ ذلك الحين أخذ يبحث عن قطعة أرض للشراء فأوقعته المقادير في قطعة صالحة أراد صاحبها أن يبيعها عاجلا تخلصا من عسر أحاق به، وكانت مساحة الأرض تبلغ خمسمائة وستة وأربعين هكتارا، اشتراها باهوم بمبلغ ألف وخمسمائة روبل، يدفع نصف ثمنها فورا ويكتب على نفسه وثيقة بالباقي، وقبل أن يتم البيع بأيام مر عليه بعض التجار وطلب منه علفا لفرسه، فاحتفى به باهوم ودعاه لتناول الشاي معه، وجلسا يتحدثان، فسأله باهوم من أين هو آت، فأخبره أنه آت من أرض بعيدة تابعة لقبائل البشكير حيث اشترى لنفسه هناك خمسة آلاف وأربعمائة وستين هكتارا بمبلغ لا يزيد عن ألف روبل، فاندهش باهوم، واستزاده الضيف قائلا: " وما على المرء إلا أن يتودد إلى الرؤساء بهدايا فيمنحونه كل ما يطلب، وقد اشتريت لهم ملبوسا وسجادة وعلبة شاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كلفني مجموعها نحو مائة روبل، وبهذه الوسيلة أكرمني الرئيس"، قال ذلك وأخرج صك البيع يريه لباهوم وهو يقول: "إن موقع الأرض قريب من النهر ومما يزيدها أهمية أنها بكر لم تستغل بعد"، فافتتن باهوم بأقوال الرجل ولم يتمالك عن استزادته الحديث والإلحاف عليه بالسؤال، فأجابه الرجل:" إن هؤلاء القوم يملكون من الأرض ما لا يقع تحت حصر ولأعتبرهم على جانب عظيم من السذاجة وبلادة الطبع، وليس للأرض عندهم أدنى قيمة"، فأطبق خاتم الحرص على قلب باهوم وناجى نفسه قائلا:" أنا الآن أملك ألف روبل فأي شيء يجبرني على شراء قطعة من الأرض مساحتها خمسمائة وستة وأربعين هكتارا، بينما يمكنني شراء عشرة أضعاف هذه المساحة بنفس المبلغ دون أن أثقل كاهلي بالدين".
لم يتردد باهوم في الأمر لحظة واحدة، بل ما كاد الضيف يغادر الضيعة حتى كان هو وخادمه على الطريق المؤدية إلى قبائل البشكير، ليتحقق من الأمر بنفسه، وبعد مسيرة بضع ساعات حط رحاله في إحدى القرى ليشتري صندوقا من الشاي وبعض النبيذ وهدايا أخرى كما أوصاه الرجل، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى مكان القبيلة بعد أن قطع مسافة لا تقل عن ثلاثمائة ميل، فوجد الأمر كما وصفه الرجل، ورأى القوم يسكنون الخيام بالقرب من مراع فسيحة يخترقها نهر عظيم، وجُلّ معيشتهم معتمد على اللحوم ومستخرجات الألبان، ولا يهتمون بزراعة الأرض وغرسها، والنساء هن اللواتي يقمن بكل الأعمال، أما الرجال فلا هم لهم إلا الأكل وشرب الشاي والضرب على القيثارة، وكلهم أقوياء البنية صحاح الأجسام يقضون فصل الصيف في اللهو واللعب ولا يباشرون فيه أي عمل من الأعمال، وهم على درجة عظيمة من السذاجة وبلادة الطبع، ولا يعرفون من الروسية حرفا واحدا، وإنما يتحدثون بلغة خاصة بهم، ومن عاداتهم الجميلة، إكرام وفادة الغريب، إذ ما كاد يقع نظرهم على باهوم حتى خرجوا من خيامهم والتفوا حوله صغارا وكبارا يتأملون وجهه، وكان بينهم رجل يتكلم الروسية فتوسط بينه وبين قومه وسأله عن قصده، فأخبره باهوم أنه جاء لشراء قطعة من الأرض، ففرحوا بذلك وأخذوا بيده إلى إحدى الخيام الكبيرة حيث أجلسوه على وسادة وثيرة وقدموا له أعز ما لديهم من المأكل والمشرب، وبعد الانتهاء من الطعام قام باهوم إلى عربته وأخرج ما كان لديه من هدايا ووزعها عليهم بالتساوي، فارتسمت على وجوههم أمارات البشرى والسرور، وأخذوا يتكلمون فيما بينهم مدة طويلة وأخيرا أشركوا الترجمان في الحديث، فالتفت إلى باهوم وقال له:" قد سر القوم بهداياك أيما سرور ويشكرونك كثيرا على هذا الصنيع، ومن عادتهم إكرام الضيف بكل ما في وسعهم فاطلب ما تريده منهم لقاء هديتك فإنهم لا يتأخرون لحظة واحدة عن تحقيق رغبتك"، فأجابه باهوم:" جل رغبتي هو أن اشتري منكم قطعة أرض لزراعتها واستثمارها، لأن الأرض عندكم خصبة للغاية"، فأخبرهم الترجمان بما يقول، فعاد القوم إلى حديثهم ثانية، وباهوم لا يفقه شيئا مما يقولون، وإنما رآهم يبتسمون ويضحكون ثم التفت إليه الترجمان قائلا:" يقولون أنهم سوف يعطونك بكل سرور قدر ما تطلب من الأرض التي تريدها لنفسك فتكون لك"، وما كاد الرجل يتم حديثه حتى قامت ضجة بين القوم فسأله باهوم عن جلية الأمر فأخبره الوسيط أن القوم قد انقسموا إلى فريقين فريق منهم يريد ألا يبت في الأمر حتى يحضر الرئيس وآخرون يخالفونهم في الرأي، وبينما هم في جلبتهم وضوضائهم إذا برجل ضخم الجثة عريض الأكتاف يلبس قبعة كبيرة من فرو الذئاب قد دخل من باب الخيمة فوجم القوم وسكتوا كأنما على رؤوسهم الطير، وقد وقفوا إجلالا لشأن القادم وإكبارا لأمره، فأخبره الترجمان أن القادم هو رئيس القوم، فقام باهوم مسرعا وأحضر له نصيبه من الهدية وهي كيلوغرامين  من الشاي وبعض الثياب النفيسة، فتقبلها الرئيس شاكرا وجلس في صدر المكان والتف القوم حوله يحدثونه بشأن باهوم، فأشار إليهم بالسكوت ثم التفت إليه يخاطبه بالروسية:" أخبرني القوم بشأنك وما كنت لأرد لك طلبا فاختر القطعة التي ترضاها لنفسك، فإن لدينا كثيرا من الأرض كما ترى"، فقال باهوم في نفسه:" كيف أقبل منه ذلك بمجرد القول بلا قيد ولا شرط، ألا يجوز أن يتنادموا في المستقبل ويتراجعون على ما وهبوه لي من الأرض؟"، ثم خاطب الرئيس قائلا:" أقدم لكم جزيل الشكر على هذا الكرم ولكن ألا يجدر بنا أن نستوثق الأمر بحجة أو سند فإن الأعمار بيد الله، والمرء لا يأمل أن يخلد طول الدهر، ألا يجوز أن يأتي بعدكم خلف لا يرضى بعملكم فينازعنا في الأرض؟"، فأجابه الرئيس:" إنك محق فيما تقول وسوف يكون الأمر كما تريد"، فقال باهوم:" بلغني أن أحد التجار اشترى منكم من عهد قريب من الأرض، وأخذ عليكم عقدا بالبيع وأنا أحب أن تعاملوني بمثل معاملته"، فأجابه الرئيس:" حبا وكرامة، عندما يتم الاتفاق نكتب عقدا بذلك ثم نسجله بمحكمة البلدة"، فسأله باهوم:" وكم يكون الثمن؟"، فأجابه الرئيس بقوله:" إن الثمن عندنا محدد لا يتغير فإننا نأخذ ألف روبل عن اليوم الكامل"، فلم يفهم باهوم ماذا أراد بقوله اليوم الكامل فسأله مستوضحا:" ماذا تعني باليوم الكامل وكم هكتارا يكون؟"، فأجاب الرئيس:" نحن لا نستعمل المقاييس في مسح الأرض، وإنما نقدرها بالسير فيها يوما كاملا، وثمن الأرض التي يقطعها المرء مشيا على أقدامه يوما كاملا هو ألف روبل"، ففرح باهوم وصاح قائلا:" ولكنني أقطع في اليوم أرضا شاسعة للغاية"، فأجاب الرئيس:" كل ما تيسر على قدر جهدك يكون ملكا  لك، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس، فإذا غربت الشمس ولم ترجع تخسر جميع ما تدفعه من المال"، فقال باهوم:" ولكن كيف السبيل إلى معرفة الأرض التي أقطعها؟"، فأجابه قائلا:" إن ذلك سهل ميسور، عليك أن تختار لنفسك بقعة من الأرض تسير فيها، وعند كل ثنية من الأرض تحفر حفرة صغيرة تجعل بجانبها كومة من التراب بواسطة فأس صغير يكون معك لهذا الغرض، وعند الانتهاء نصل نحن تلك العلامات بحراثة محيط الأرض الذي تقطعه في اليوم ولك مطلق الحرية في أن تسير في الأرض كما تريد على شرط الرجوع قبل غروب الشمس"، فارتاح لذلك باهوم  وتقرر أن يبدأ في السير صبيحة اليوم التالي، ثم أكملوا يومهم في الحديث والمنادمة حتى إذا أقبل الليل فرشوا له فراشا وثيرا وتركوه في الخيمة لينام فيها ليلته بعد أن وعده الرئيس بأن يوافيه صباحا قبل شروق الشمس.
رقد باهوم طول ليلته وهو يبنى لنفسه القصور والآمال متقلبا على فراش الأماني والأحلام دون أن يغمض له جفن أو يكتحل بنوم، وقبيل الفجر أخذ التعب منه مأخذه وقد تغلب عليه النعاس فأخذته سنة من النوم ثم رأى فيما يراه النائم أن الرئيس أقبل عليه ينتظره على باب الخيمة فخرج إليه يسأله عن جلية الأمر، فوجد أن القادم ليس الرئيس وإنما هو الرجل التاجر الذي أرشده إلى أراضي البشكير فتقدم منه وقد هم أن يسأله متى حضر، وإذا به يرى في وجهه صورة الرجل القروي الذي أقبل إليه في قريته الأولى من جهة الفولجا، فَهَمّ أن يصافحه ويرحب به، وإذا به يرى  في وجهه صورة إبليس اللعين في شكل بشع ومنظر مريع، فأشاح بوجهه إلى جهة أخرى فرأى جثة إنسان ملقاة على مقربة منه فاقترب من الجثة ليتأمل وجه صاحبها، ولكنه ما كاد يقترب منها بعض خطوات حتى ارتعد مذعورا لأنه رأى فيها صورة نفسه، ثم قام من نومه وهو على هذه الحالة ممتقع اللون ترتعد فرائصه، فنظر إلى باب الخيمة فلم ير غير حمرة الشفق، فعلم أن ستر الليل أوشك أن يتمزق، فلا يمضي القليل حتى يسفر الصباح عن وجهه، فهب من فراشه وهو يقول:" ما أكثر ما يرى الإنسان في نومه، لا شك أن ما رأيته هو أضغاث أحلام، وها قد قرب الصبح والقوم نيام بعد"، ثم ذهب مسرعا نحو خادمه الذي كان نائما في العربة، فأيقظه وأمره بالاستعداد ثم أسرع نحو القوم يوقظهم، فصحا القوم واجتمعوا في خيمته، ولم يلبث أن وافاهم الرئيس وكانت الشمس قد اقتربت من البزوغ، فأمر بإحضار وجبة الإفطار، وعرض على باهوم تناول بعض الشاي، فأبى قائلا:" لم يبق متسع من الوقت فلنبدأ بالعمل إن كنا فاعلين".
عند ذلك وقف القوم استعدادا للمسير، ثم ركب بعضهم العربات وامتطى آخرون الجياد، وركب باهوم عربته وسار في طليعة القوم مع الرئيس، وبعد مسيرة قصيرة وصلوا إلى تل صغير يشرف  على سهل فسيح الأرجاء، وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ، فوقف القوم وتقدم الرئيس قائلا وقد أشار بيده إلى السهل:" انظر كل هذا السهل الفسيح ملك لنا ولك أن تسير فيه أنى تشاء"، وبعد أن قال ذلك خلع قبعته ووضعها على الأرض قائلا:" فلتكن هذه القبعة علامة لبداية مسيرك، فابتدأ بالسير من هنا ثم ارجع إليها ثانية بعد أن تتم دورتك، وكل الأرض التي تمشي فيها تكون ملكا لك"، ولم يتمالك باهوم من إظهار الفرح والسرور عندما رأى ذلك السهل الفسيح وتيقن أنه خصب يصلح لزراعة كل أنواع الحبوب، ثم أسرع من حينه ووضع ما لديه من نقود وهي ألف روبل في قبعة الرئيس، وطرح رداءه الخارجي وشمر على أكمام قميصه ليكون خفيف الوزن في السير، ثم شد حزاما من الجلد على وسطه وحمل حقيبة صغيرة على ظهره فيها بعض الزاد وما يلزم لشربه ذلك اليوم، ثم امسك بالفأس والتفت يمنة ويسرة ليختار وجهة للسير، وبعد أن وقف برهة ناجى نفسه قائلا:" كل الأرض سواء ولكن يجدر بي أن أسير نحو الشرق"، قال ذلك وحمل فأسه على ظهره وسار يتبع مشرق الشمس.
وبعد أن قطع نحو نصف ميل وقف قليلا فحفر الأرض ثم جعل بجانبها كومة من التراب علامة لوصوله تلك البقعة، وكان يمشي مشيته الاعتيادية لا يمهل ولا يعدو، فقطع بذلك نصف ميل آخر وجعل علامة أخرى، ثم مشى قليلا ونظر إلى التل حيث كان القوم، فلم يتبينهم جيدا لأنه كان قد ابتعد عنهم كثيرا بمسافة لا تقل على ثلاثة أميال كما قدرها باهوم في نفسه، وكان الوقت ضحى فابتدأ يشعر بحرارة الشمس، فقال في نفسه:" قد قطعت ربع ما يجب أن أقطعه في اليوم وعلي أن أتم المربع في باقي اليوم، ولكن لا يزال أمامي متسع من الوقت"، قال ذلك وخلع نعليه وربطهما في وسطه ليرتاح في المشي، ثم سار في وجهته الأولى، وكان كلما سار وجد الأرض أخصب والتربة أجود، فقال في نفسه:" إنه لمن الحمق ترك هذه البقعة الخصبة، ما علي لو سرت ثلاثة أميال أخرى"، فسار فيها وقد جدد الحرص في نفسه همته الأولى حتى أخذ منه التعب مأخذه، فنظر وإذا الشمس في كبد السماء فعلم أن النهار قد انتصف، فوقف ريثما جعل علامة لوصوله تلك البقعة ثم جلس للغذاء، فأكل بعض الزاد وشرب قليلا من الماء، فانتصب واقفا وهو يقول:" يجب أن أسير لأن الراحة تجلب النعاس، وإذا نمت قليلا لا آمن الخسارة"، فسار من وقته وقد أراد أن ينعطف إلى وجهة أخرى إتماما للمربع، غير أنه أبصر على مقربة منه أرضا منخفضة فقال في نفسه:" هذه الأرض تصلح لزراعة الكتان، وما كنت لأترك هذه الفرصة"، قال ذلك ومشى حولها حتى إذا ما أتم مسيره وقف عند نهايتها وجعل علامة لوصوله تلك البقعة أيضا، ثم نظر إلى التل فرأى أن حجمه قد صغر جدا فعلم أنه قطع مسافة كبيرة، وإنه إن لم يسرع في الرجوع خسر كل آماله، فأسرع لوقته وهو يقول:"إن الأرض التي قطعتها لا نسبة بين طولها وعرضها ، إذ أن الطول يربو كثيرا على العرض، ولكن رغم ذلك فقد أصبحت أملك قطعة شاسعة من الأرض"، ثم وقف برهة يحفر الأرض بسرعة زائدة لتكون علامة وصوله تلك الجهة، وبعد أن أتم عمله انعطف نحو التل يريد الرجوع مسرعا، إلا أن كثرة المشي وشدة الحر انهكتا قواه، فصار يمشي بصعوبة ويتهادى في مشيته كالشيخ الضعيف، بعد أن كان يهرول، أما قدماه فقد تشققتا وسالت منهما الدماء لكثرة ما اصطدم به من حجارة وحصى أثناء مشيه وهو لا يعي، وتخاذلت ساقاه وضعفتا ولم تعودا قادرتين على حمله، إذ كان في أشد الحاجة إلى بعض الراحة ولكن أنى له ذلك والشمس مائلة للغروب شيئا فشيئا، وكان ما عليه من الحمل يضايقه كثيرا فرمى حقيبته أولا ثم نعليه وخلع بعد ذلك ثوبه، وهكذا صار يرمي ما عليه من الملابس حتى لم يبق عليه سوى القميص والسروال، وأمسك بيده الفأس ليتوكأ عليها، وسار يعدو بكل قواه، واستمر مدة على هذه الوثيرة، ثم نظر إلى الشمس فعلم أنها لا تلبث أن تغرب، ففزع لذلك كل الفزع وقال في نفسه:" رباه ما العمل، يخيل إلي أن الطمع سيفسد علي كل أمالي"، غير أنه ما لبث أن تشجع قائلا:" عار علي أن أرجع عن عزمي فأتقاعد عن السير بعد أن قطعت هذه المشقة الطويلة"، فجمع قواه وسار يمشي بكل قوته حتى اقترب من التل، فسمع صياح القوم من بعيد فتشجع ثانية وأخذ يعدو بكل ما فيه من قوة وعزم، وكانت الشمس قد قاربت المغيب، فلا تمضي بضع دقائق حتى تختفي عن الأنظار إلى ما وراء الشفق الأحمر، إلا أن باهوم كان في ذلك الوقت على مسيرة بضع خطوات من سفح التل يسمع صياح القوم ويميز أصواتهم ويرى قبعة الرئيس، عند ذلك تذكر ما رآه في الحلم فقال في نفسه:" حقا إن الأرض التي قطعتها شاسعة بعيدة المدى ولكن هل كُتِبَ لي في لوح المقدر أن أعيش عليها؟"، ثم عاد فتذكر أنه على بضع خطوات من بداية مسيره، وأنه ما عليه إلا أن يجمع عزيمته ثانية فيصل إليها ويملك الأرض، فجددت هذه الأماني في نفسه ضوء الأمل، فصار يتهادى طورا كالشيخ الضعيف وتارة يحبو كالطفل الرضيع حتى وصل سفح التل، عند ذلك نظر وإذا الشمس قد غربت وأصبح السهل في ظلام حالك، فتقطعت نياط قلبه وصاح يقول:" أواه قد ذهبت أتعابي أدراج الرياح"، إلا أن القوم لم ينقطعوا عن صياحهم ونداءهم، فتذكر أن مكانهم أعلى من مكانه لأنه ما زال في سفح التل، وأن الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، فتنفس الصعداء وجمع ما تبقى لديه من قوة وعزم وأخذ يصعد التل، فوصل القمة وكانت الشمس لا تزال ظاهرة لديهم، ثم عاد فتذكر ما رآه في الحلم فصرخ صرخة مزعجة وارتمى على الأرض بالقرب من قبعة الرئيس وقد وضع يده عليها، فقال الرئيس:" إنه سعيد الحظ فقد أصاب قطعة كبيرة من الأرض"، ثم أسرع خادم باهوم ليرفعه عن الأرض ولكنه ما كاد يرفعه قليلا حتى سال الدم من فمه وارتمى على الأرض جثة هامدة، فوجم القوم واطرقوا برؤوسهم إلى الأرض وقد ارتسمت على وجوههم الكآبة والحزن.
فقام خادم باهوم وحفر لسيده قبرا طوله متر وثلاث وثمانون سنتمترا، وكان ذلك كل نصيبه من الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق