يكاد يكون ركن الدين محمد بن محرز الوهراني المتوفي سنة 1575 م (575 ه) صاحب الرسائل والمقامات والمنامات مجهولا في تاريخ الأدب العربي، علما أن كتابات هذا الرجل فريدة من نوعها لحيويتها وهزلها وتصويرها بدقة وبلاغة عالية بعض جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية في مرحلة من مراحل تحول كبير في المجتمع العربي وقت انتقاله من حكم الدولة الفاطمية إلى الدولة الأيوبية.
امتازت نصوص الوهراني ببراعة وصفه وخفة روحه ورشاقة أسلوبه وسخريته وتهكمه على الحكام والقابضين بزمام السلطة والتسلط على رقاب الناس أيام زمانه، ووصلت به جرأته أحيانا خصوصا في مناماته إلى استعمال ألفاظ بذيئة بحقهم، وهو معذور في ذلك وصادق فيما يقول، لأنها كانت مستوحاة ومستمدة من الواقع المعاش لهؤلاء الأقوام، ولا يمكن بأية حال من الأحوال حجبه ولا إنكاره ولا تزويقه وتنميقه، فالفساد يبقى فسادا، والفاسدون يَشِمُهُمْ التاريخ ويعري عوراتهم أمام الجموع إلى يوم الدين.
وفي هذا الصدد يقول الباحث والمؤرخ والمحقق والمترجم السوري الأستاذ الدكتور سهيل زكار رحمه الله (1936- 2020) في تقديمه لمؤلف 'منامات الوهراني وحكاياته' من تحقيق الدكتور منذر الحايك: "نجح الوهراني في تقديم صورة سلبية جدا لجميع شخصيات القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد)، من كبار رجال الدولة: حكام، قادة، فقهاء، وقضاة، فقد كان المظهر العلني لهؤلاء يتناقض تماما مع واقعهم الذي كان فيه ظلم وحيف وسرقات وعهر ومعاقرة خمر وشذوذ جنسي، وطبعا انتشر الشذوذ الجنسي وفشا كالطاعون منذ وصول السلاجقة وقيام دول القلاع، وكان الشذوذ كثيرا جدا في العصرين الأيوبي والمملوكي ولا سيما في أوساط أهل السلطة، وأسباب الشذوذ ومعاقرة الخمر والعهر كثيرة منها اجتماعية، اقتصادية، إدارية وسلطوية، فذلك كان نتاج اختلال المعايير الذي ساد في عصر الحروب الصليبية، حيث انشغل القائد مثل صلاح الدين في الجبهة وابتعد عن دمشق، فساد الاستثناء وتعطلت القوانين، وتحالف الإقطاعان العسكري والديني، وتغاضيا عن جميع التجاوزات، فقد كان رجل السلطة بحاجة إلى رجل الدين ليفتى له مسوغا أعماله حتى ولو كانت تسليم القدس، كما فعل قاضي قضاة حماة ابن أبي الدم حين أفتى للكامل محمد بن العادل الأيوبي بتسليم القدس إلى فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا، واحتاج رجل الدين-حتى وإن كان ابن خلكان- إلى رجل السلطة، لا ليحميه فقط ويحول دون تطبيق الشريعة بحقه لسرقة أموال الأوقاف وغيرها، بل أيضا من العهر والشذوذ الجنسي، ومع أن الوهراني قد رصد جميع الصور السلبية في مجتمعه لكنه لم يتحدث عن تناول المخدرات، وهو ما سيكون في العصر المملوكي ولا سيما بين المتصوفة.. وكان الوهراني رسم صورة المجتمع المشرقي بلغة ليس فيها الصنعة التي نجدها عند معاصره العماد الأصفهاني وسواه، ولا بد للباحث من الوقوف من تمكن الوهراني من الكتابة والنقد بحرية، وأنا أغبطه على ذلك حيث امتلك حرية التعبير، ولم يعش في ظل الرقابة والرقيب، فالرقابة والرقيب هما الآن في كل مكان من العالم، على الرغم من أن العصر عصر الفضائيات وشبكات المعلومات".
امتازت نصوص الوهراني ببراعة وصفه وخفة روحه ورشاقة أسلوبه وسخريته وتهكمه على الحكام والقابضين بزمام السلطة والتسلط على رقاب الناس أيام زمانه، ووصلت به جرأته أحيانا خصوصا في مناماته إلى استعمال ألفاظ بذيئة بحقهم، وهو معذور في ذلك وصادق فيما يقول، لأنها كانت مستوحاة ومستمدة من الواقع المعاش لهؤلاء الأقوام، ولا يمكن بأية حال من الأحوال حجبه ولا إنكاره ولا تزويقه وتنميقه، فالفساد يبقى فسادا، والفاسدون يَشِمُهُمْ التاريخ ويعري عوراتهم أمام الجموع إلى يوم الدين.
وفي هذا الصدد يقول الباحث والمؤرخ والمحقق والمترجم السوري الأستاذ الدكتور سهيل زكار رحمه الله (1936- 2020) في تقديمه لمؤلف 'منامات الوهراني وحكاياته' من تحقيق الدكتور منذر الحايك: "نجح الوهراني في تقديم صورة سلبية جدا لجميع شخصيات القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد)، من كبار رجال الدولة: حكام، قادة، فقهاء، وقضاة، فقد كان المظهر العلني لهؤلاء يتناقض تماما مع واقعهم الذي كان فيه ظلم وحيف وسرقات وعهر ومعاقرة خمر وشذوذ جنسي، وطبعا انتشر الشذوذ الجنسي وفشا كالطاعون منذ وصول السلاجقة وقيام دول القلاع، وكان الشذوذ كثيرا جدا في العصرين الأيوبي والمملوكي ولا سيما في أوساط أهل السلطة، وأسباب الشذوذ ومعاقرة الخمر والعهر كثيرة منها اجتماعية، اقتصادية، إدارية وسلطوية، فذلك كان نتاج اختلال المعايير الذي ساد في عصر الحروب الصليبية، حيث انشغل القائد مثل صلاح الدين في الجبهة وابتعد عن دمشق، فساد الاستثناء وتعطلت القوانين، وتحالف الإقطاعان العسكري والديني، وتغاضيا عن جميع التجاوزات، فقد كان رجل السلطة بحاجة إلى رجل الدين ليفتى له مسوغا أعماله حتى ولو كانت تسليم القدس، كما فعل قاضي قضاة حماة ابن أبي الدم حين أفتى للكامل محمد بن العادل الأيوبي بتسليم القدس إلى فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا، واحتاج رجل الدين-حتى وإن كان ابن خلكان- إلى رجل السلطة، لا ليحميه فقط ويحول دون تطبيق الشريعة بحقه لسرقة أموال الأوقاف وغيرها، بل أيضا من العهر والشذوذ الجنسي، ومع أن الوهراني قد رصد جميع الصور السلبية في مجتمعه لكنه لم يتحدث عن تناول المخدرات، وهو ما سيكون في العصر المملوكي ولا سيما بين المتصوفة.. وكان الوهراني رسم صورة المجتمع المشرقي بلغة ليس فيها الصنعة التي نجدها عند معاصره العماد الأصفهاني وسواه، ولا بد للباحث من الوقوف من تمكن الوهراني من الكتابة والنقد بحرية، وأنا أغبطه على ذلك حيث امتلك حرية التعبير، ولم يعش في ظل الرقابة والرقيب، فالرقابة والرقيب هما الآن في كل مكان من العالم، على الرغم من أن العصر عصر الفضائيات وشبكات المعلومات".
ومن منامات الوهراني الهزلية اخترت أربعا منها تظهر بما لا يدع مجالا للشك خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه وسخريته اللاذعة إن لم أقل البذيئة في بعض الأحيان:
قال الوهراني لبعض أصحابه وقد فارقه من الشام إلى مصر: فاجتمع يوماً ببعض المعارف الراسخين في المعارف، فسأله عن أسعار الأشعار فأخبره عنها بالكساد، والفساد، وعن أهلها بالحراف، والانحراف، وقال: كل كلام مسجوع، لا يسمن ولا يغني من جوع، وصاحب القصيد، كالباسط ذراعيه بالوصيد، وما عند الأمراء، أخسُّ من ذقون الشعراء، فلو بشر أحدهم بشار وهنأه ابن هانئ، وقصده أبو العلاء، ونزل به صريع الدلاء، ومدحه الدؤلي بداليته، والطائي بطائيته، والوأواء بواويته، لما أجازوه على ذلك بجوزة، ولا أثابوه بثوب خليع، ورد أمس الذاهب أهون عليه من أخذ ذهبه، وخلع الأكتاف أهون من خلعه، وحنوط الغاسل أقرب من حنطته، والشعرى أقرب من قرطه، والتبن مثل التبر.
ومن مضحكات الوهراني مقامة في قصة عجوز تزوجت بإسكافي فجعلته بتعليمها فقيهاً وقالت له كن فقيهاً فكان، قال عيسى بن حماد فقلت للراوي مثلك من أفاد، وشفى بحديثه الفؤاد، فكيف تمشي حاله، وتغطي على الفقهاء محاله، فقال أعلم أنه لما أجمعت العجوز على تعليمه، ورده إلى المدرسة وتسليمه، تخوف من ذلك الأمر، وبات ليلته على الجمر، فلما أصبح قال لها: اعلمي يا هذه أني كنت في بلدي إسكافياً، فكيف لي بالمدارس، وأنا كالطلل الدارس، ومن أين لي بالتخبيز (كذا) وأنا مثل حمار العزيز، والله ما أفرق بين الحروف، وقرن الخروف، فقالت أنا أعلمك العلم كله، إلا أقله، وأعلمك فصلاً في التدريس، تغلب به محمد بن إدريس، فقال لها يا هذه والله ما أرجو من المدرسة نفعاً، وإني أخاف أن يقتلوني صفعاً، فدعيني في. . . فقالت أريد إخراجك من المدابر، وأرفعك على رؤوس المنابر، فاحضر ذهنك، وافتح لهذا الدرس أذنك، واعلم أن الألف قائم كالمعول، وهو كتاب المنزل، والباء كالصنارة، أو كرجل المنارة، والهاء كالثقالة، وفيها شيء كالعرقالة، والطاء كالخف، أو كطائرة الدف، وكل مدور ميم، وكل معوج جيم، والصاد تشبه نعالك، والذال تشبه قذالك، وأن القاف والكاف، يشبهان الاكاف، فاحفظ هذا الكلام، وقد أصبحت مفتي العراق والشام، واحذر اعتزالي، والعم أن بهذا الفصل تقدمة الغزالي.
فأقبل التيس يكرر لفظه، حتى أجاد حفظه، وعندها خرج في القمة والغمة (كذا) وعزم على مدرسة جمال الأئمة، فخرجت تبخره من العين، وتقرأ عليه المعوذتين، وقالت له إذا جلست فتربع، ولا تتقنع، وانشر أكمامك، واظهر للناس أعلامك، فإن الغريب ابن ثويبة، والمقيم ابن جديبة (؟) فقال لها: أوصيني يرحمك الله، فقالت له إذا حضرت فانفخ حضنك وبطنك، وانفش بين الفقهاء ذقنك، وباكر المدرسة عند الصباح، وسابقهم في الرواح، وإن غلبوك في العلم فلا يغلبوك عند الصياح، فقال ويلك، أخاف أن أفتل باللوالك ولكن أوصيني، فقالت خذ اللفظ بأناملك بين شفتيك، وزاحم الفقهاء بمنكبيك، وازعق في وجه الشيخ ولا جناح عليك، قال فهاتي إذا شيئاً من قماشك، أرد به صفع الشماشك، فقالت اجسر على القوم، فما هو الأبياض اليوم، واعلم أن الفقه ليس هو إلا النفاق والزعاق، وتلويث وجه الخصم بالبزاق، فقال لها إن صدقت، فأنا أكون إمام الوقت، وقام في ذلك الأوان، حتى دخل على الفقهاء في الإيوان، فهابته قلوب الجماعة، وخافوا أن يكون من أهل البراعة، فأنصفوه في السلام، وبسطوه في الكلام، وآنسوه بالمحاضرة، حتى جاء وقت المناظرة.
وكتب الوهراني على لسان بغلته إلى الأمير عز الدين موسك ابن خال صلاح الدين الأيوبي فقال: المملوكة ريحانة بغلة الوهراني تقبل الأرض بين يدي المولى عز الدين حسام أمير المؤمنين نجاه الله من حر نار السعير، وعطر بذكره قوافل العير، ورزقه من القرط والتبن والشعير ما وسق مائة ألف بعير، واستجاب فيه صالح الأدعية من الجم الغفير من الخيل والبغال والحمير، وتنهي كل ما تقاسيه من مواصلة الصيام وسوء القيام، والتعب في الليل والدواب نيام، قد أشرفت مملوكته على التلف وصاحبها لا يحتمل الكلف ولا يوقن بالخلف، ولا يحل به البلاء العظيم إلا في وقت حاجتي إلى القضيم، لأنه في بيته مثل المسك والعبير، فشعيره أبعد من الشعرى العبور، لا وصول إليه ولا عبور، وقرطه أعزُّ من قرط مارية، لا يخرجه بيع ولا هبة ولا عارية، والتبن أحبُّ إليه من الابن، والجلبان أعز من دهن البان، والقضيم بمنزلة الدر النظيم، والفصة أجمل من سبائك الفضة، وأما الفول فمن دونه ألف باب مقفول، فما يهون عليه أن يعلف الدواب إلا بعيون الآداب، والفقه اللباب والسؤال والجواب، وما عند الله من الثواب، ومعلوم يا سيدي أن البهائم لا توصف بالحلوم، ولا تعيش بسماع العلوم، ولا تطرب إلى شعر أبي تمام، ولا تعرف الحارث بن همام ولاسيما البغال، التي تشتغل في جميع الأشغال، شبكة من القصيل أحب إليها من كتاب التحصيل، وقفة من الدريس أشهى إليها من فقه محمد بن إدريس، لو أكل البغل كتاب المقامات مات، فإن لم يجد إلا كتاب الرضاع ضاع ولو قيل له أنت هالك إن لم تأكل موطأ مالك، ما قبل ذلك، وكذا الجمل لا يتغذى بشرح أبيات الجمل، وحزمة من الكلاء أحب إليه من شعر أبي العلاء، وليس عنده طيب شعر أبي الطيب، وأما الخيل فلا تطرب إلا لسماع الكيل، وإذا أكلت كتاب الذيل ماتت في النهار قبل الليل، والويل لهاثم الويل، ولا تستغني الأكاديش عن الحشيش، بكل ما في الحماسة من شعر أبي الحريش، وإذا أطعمت الحمار شعر ابن عمار حل به الدمار، وأصبح منفوخاً كالطبل على باب الإسطبل، وبعد هذا كله قد راح صاحبهما إلى العلاف وعرض عليه مسائل الخلاف وطلب من بيته خمس قفاف فقام إليه بالخفاف، فخاطبه بالتقعير وفسر عليه آية العير وطلب منه حصة كذا شعير، فحمل على عياله ألف بعير، فانصرف الشيخ منكسر القلب مغتاظاً من الثلب، وهو أنجس من ابن بنت الكلب، فالتفت إلى المسكينة وقد سلبه الغيظ ثوب السكينة، وقال لها إن شئت أن تكدي فكدي، لا ذقت شعيراً ما دمت عندي، فبقيت المملوكة حائرة لا قائمة ولا سائرة، فقال لها العلاف لا تجزعي من حباله ولا تلتفتي على سباله، ولا تنظري إلى نفقته ولا يكون عندك أخس من عنفقته، هذا الأمير عز الدين سيف المجاهدين يده أندى من الغمام وعزيمته أمضى من الحسام ووجهه أبهى من البدر ليلة التمام، يرثي للمحروب ويفرج عن المكروب وهو نبي بني أيوب، لا يرد قائلا ولا يخيب سائلا، فلما سمعت المملوكة هذا الكلام جذبت الزمام ورفست الغلام وقطعت اللجام وشقت الزحام حتى طرحت خدها على الأقدام، ورأيك العالي والسلام.
وكتب الوهراني إلى قاضي الفاسقين وهو بمصر عن نائبه بدمشق يخبره بما صارت إليه الأحوال بعد توجهه إلى الديار المصرية قائلا: المملوك النائب عن مجلس الفسق الوضيع بالشام، أوله كل من في الوجود نحس إلا واحد،
أطال الله قرون مولاي القاضي الأجم الفاضل، الإمام العالم، قاضي الفاسقين، إمام اللاَّطة، مُفتي الفسقة، تاج الزناة، عز العلوق، مجال المشارب، قطب الدساكر، مقدم الخرابات، رئيس المواخير، فخر البدود، ذو القرنين الحاضر أقود العالم مصطفى غلام أمير المؤمنين، مسخرة نَفَّاط غلام أمير المؤمنين، وأدام الله سروره وأفراحه، وبلغه أمله واقتراحه، وأدام اغتباقه واصطحابه، ولا زالت يمينه مطية لفصوص القداح، وفلكا لشموس الأقداح، ومنزله مأهولا بالولدان، معمورا بالقحاب والْمُرْدان، ونغانغه بمجون العلوق محمرة، وأحداقه بأكفهم مخضرة، وخيول اللهو إلى فنائه مسرعة، وسحائب الصفع عن ربوع أكتافه مقلعة، ولا جعل لسلطان الدرة على قفاه سبيلا، ولا لطوارق القلع إلى رأسه دليلا.
كتبت هذه الأحرف إليه، يسر الله معاصيه، وبارك له في مخاصيه، أشكو إليه ما عندي من الشوق إلى طلعته وصلعته، والحنين إلى قاعته ورقاعته، والارتياح إلى قامته وهامته، فشوقي إليه شوق الفاسق اللايط إلى المباعر، والمنقطع إلى لحوق الأباعر، وحنيني إليه حنين الجُعل إلى الأرواث، واللايط إلى شم الأخباث، وارتياحي إليه كارتياح الأرملة إلى البِعال، ورأسه إلى مباشرة النعال، فأقسم له بالغصن إذا استوى والحقف وما احتوى والصدغ إذا التوى، فلو خط بعض شوقي إليه على وجوه الحسان لكسفها، وعلى رُبَى الأكفال لنسفها، أو حل بالعاشق لسلاه، وبالأمر الفادح لجلاه، فنسأل الذي قضى بالبين أن يؤلفنا بالنيربين، والذي ابتلانا بالصدود أن يجمعنا في بعض البدود، بمنه وكرمه، وأما غير ذلك كثر الله أرباحك، وأدام على المعرفة نباحك، فلا تسأل عما يقاسيه الخادم من جور العلوق، واهتضام المشوق، وبُعْدِ ما بين القهوة والحلوق، وما قد ابتلينا به من القضاة المخالفين، والأئمة المسخفين، من إقامة الحدود، وتعطيل البدود، وتحريم الزمر، وتبطيل أبواب الخمر، وضربهم للسكران، ولو أن الحكيم بن المطران، وأخذهم أشد العهود على النصارى واليهود، فصارت القهوة أقل من أخلاط الجسد، وأعز من جبهة الأسد، لا تبصر في الليالي إلا كطيف الخيال، ولا في النهار إلا عند إراقتها في الأنهار، ونحن معهم في شدة، إلى أن تنقضي هذه المدة، وعند التناهي يكون الفرج، وكلما تزايد إنكارهم، وتفرغت للتعذير أفكارهم، ذكرنا-عزك الله- تعصبك ووفاك، وردعك لنا بقفاك، وأما العلوق-لعنهم الله- ورد كيدهم في نحورهم، ومكن رماحنا في ظهورهم، فإنهم لما علموا بسفرك، وأمنوا من بوادر ظفرك، اشتدوا بنفوسهم، وركبوا في الجور على رؤوسهم، يعذبون العشاق، ويقتلون المشتاق، ويضعفونهم بالتشريخ، ويصقلون أقفيتهم بالتمريخ، ويجوزون...كالأذقال، ويتعامون للعشاق عن الإدخال،....مع الغير بالفلوس، ويبخلون على العاشق بالجلوس، فأقسمت يا سيدي بمداسك ورأسك، وحق النعل إذا طن، والوتر إذا زن، والركب إذا عرش، والعلق إذا شرش، لو كنت فيهم كالأمير، لأشهرتهم على الحمير، وحرمت عليهم نتف الذقون، ودلك الساقات والبطون، حتى يريحنا الشعر من الصداع، ويبقى أحدهم على أكلة والوداع، وأعجب من ذلك يا سيدي أن أحدهم إذا عبث الشعر بساقه، تجبر على عشاقه، وإذا تسرولت أليته، عظمت بليته، وكلما طال شعره، ارتفع بين العلوق سعره، وليس ذلك إلا لطول غيبتك عنا، وبُعْدِ أوبتك منا، فنسأل الباري جلت قدرته أن يردك إلى الأهل والقرابات، ويشرف بك البدود والخرابات، وأشد من ذلك يا سيدي ما حدثني به من ينتمي إلى هوى أبي بكر اختمي أن قمته وقرعته محلوقة، كخده لما كانت له دبوقة، وهذه من النعم التي يجب أن تكفر، ومن الذنوب التي لا يجوز أن تغفر، فلو نتف أحدنا-أصلحك الله-سباله، ومزق سرباله، لما وصل إلى بغيته، ولو عمل الخرا في جوف لحيته، فإن كان لك حاجة بولايتك، فاطلع علينا برايتك، من قبل أن يسلوا العاشقون ويتوب إلى الله الفاسقون، فيتغير الهندام وتكسد أسواق المعاصي بالشام.
ومتى عزمت الإياب، فحصل النفقة والثياب، لكيلا تموت بالجوع، وتندم على الرجوع، ولا تطمع في التكسب بالشعر، فقد راح ذلك السعر، ولو قلت اليوم الحماسة، ما حصل لك بها كُناسة، ولو أنك امرؤ القيس، كنت عندهم مثل التيس، ولو أنك ابن منير، حَمَّلُوا على عيالك الحمير، وما ذاك إلا لأن الجود قد استقل، والكرم قد انتقل، وقد وصل إلى قليوب، ملازما لبني أيوب، ونحن فكما قال الوهراني في قصيدة له:
أَنِسَتْ بَنُو شَاذِي بـِمِصْرَ وَأَهْلِهَا فَبَكَتْ دِمَشْقُ عَلَيْهِمْ وَالشَّامُ
رَحَلَ النَّدَى وَالْجُودُ يَوْمَ رَحِيلِهِمْ وَتَخَلَّفَ الْحِرْمَانُ وَالإِعْدَامُ
كَانُوا لَنَا كَالْوَالِدَيْنِ تَعَطُّفاً فَالْيَوْمَ نَحْنُ لِبُعْدِهِمْ أَيْتَامُ
فانظر لنفسك، واتعظ بأبناء جنسك، ورأيك في ذلك أعلا والسـلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق