"قُلْتُ مَرَّةً لِلْحَيَاةِ: أَوَدُّ لَوْ أَسْمَعُ الْـمَوْتَ مُتَكَلِّماً، فَرَفَعَتِ الـْحَيَاةُ صَوْتـَهَا قَلِيلاً وَقَالَتْ لِي: إِنَّكَ تَسْمَعُهُ الآنَ" جبران خليل جبران
حسب مكتب المراجع السكانية بواشنطن يقدر عدد البشر الذين عاشوا على كوكب الأرض منذ 200.000 سنة ب 106 مليار نسمة، مع العلم أن سكان الكوكب في الوقت الراهن يناهز سبعة ملايير وست مائة ألف نسمة، أي أن فقط 6 % من المجموع الكلي هم أحياء الآن، و 100 مليار ذوبـهم التراب وحولهم إلى لا شيء، وطواهم النسيان لذى الإنس والجان، ولله در الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري عندما عبر عن هذه الحقيقة أبلغ تعبير لما قال:
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ الْعَهْـ ـدُ هَوَانُ الآبَاءِ وَالأَجْدَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الهَوَاءِ رُوَيْداً لاَ اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ الْعِبَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مِرَاراً ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَادِ
وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ فِي طَوِيلِ الأزْمَانِ وَالآبَادِ
وفي كل الأحوال فحتى السبعة ملايير ونصف التي تشهق وتزفر الآن هي الأخرى سوف يسقيها بكأس الموت ساقيها، وهذا موضوع لا يُحب أن يخوض فيه الكثير من الناس لأنه يفزعهم ويدخل الرعب في قلوبهم، لذا غالبا ما يتظاهرون وكأنه أمر لا وجود له حتى يقع لهم على حين غرة، أو أمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد ما دام يُصيب الآخرين، ومع ذلك فهو مسألة تهم جميع المخلوقات وليس البشر وحدهم، وكل الخلائق محكوم عليها بالفناء عاجلا أم آجلا، والقضية مسألة وقت ليس إلا.
ويعتبر الموت إحدى المفارقات الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لقضية الوجود الإنساني، وربما الواقع الأكثر إثارة للصدمة على الإطلاق، إذ يأتي المرء إلى هذه الحياة الدنيا مرة واحدة ولفترة زمنية محدودة، مدتها وأجلها غير معروفين لكن نهايتها حتمية نهائية، ولعل اللغز المحير المخفي الكامن في وقت حلوله يعتبر من رأفة الخالق جل جلاله ومن مننها العظمى على المخلوقات، وإلا لأضحى المرء يطرح أسئلة سوداوية تُضحي معها الحياة تافهة مثل هل من المجدي أن يعالج سنا مريضا؟.. هل من فائدة في شراء سيارة؟.. أو هل من وقت كاف لبناء منزل؟.. وهكذا دواليك، لدرجة أن العيش سوف يتحول إلى كابوس مرعب تُضحي معه الكثير من حوائج الناس ومصالحهم التي لا تقوم حياتهم إلا بها مشوشة ومضطربة أو معطلة تماما.
إن الحياة هي أغلى هدية تُوهب للمخلوقات التي تبادلها حبا بحب وتتفنن في اختراع كل الوسائل والطرق المتنوعة لتجنب استذكار الواقع القاسي الذي يأذن طال الزمن أو قصر باسترداد الهدية وإعادتها إلى بارئها، وليس لهذا الحب الجنوني للحياة الذي يعتبر من أخطر الأمراض الفتاكة على الإطلاق إن طال أمده وعم بلاءه من دواء فعال غير الموت، دواء طعمه مر كالحنظل، فريد من نوعه، يوزع على الجميع مجانا بالتساوي والقسطاس في أعظم عدالة على الإطلاق وضعها الخالق جل وعلا للمخلوقات خاصة منها البشر، بدون واسطات ولا زبونية ولا محسوبية ولا بقشيش ولا أباك صاحبي.
وحتى النعش الذي يُحمل عليه الميت ليس سوى وسيلة أخرى من وسائل المواصلات، لكنه أكثرها راحة وأقلها تأثرا بحوادث السير كما قال في أيام الله الماضية الكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم الذي اعتبر الموت أخ البشر في الرضاعة يمشي في عروق العالم مثل بغل بري.
أما الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فيرى الموت بمنظار الفيلسوف والعالم الاجتماعي المطلع على خلجات الأنفس عندما قال:" أفضل ما في الموت هو أن الكثير من المساكين الـمُحْتَقَرِينَ يعتبرون الوقار الذي يُعَامَلُونَ به عند احتضارهم أجمل مُتْعَةٍ في حياتهم كلها، وَعُرْبُوناً يتلقونه كتعويض عن كثير من الـحِرْمَانِ"، وهذا كل ما يحصلون عليه في حياتهم الدنيا في آخر المطاف مع كامل الحسرة والأسف.
غير أنني أرى أن كل ذلك الوقار وتلك العواطف الجياشة المتضامنة للناس مجرد نفاق ودموع تماسيح، ككلام الليل المكتوب بماء مالح، ما يلبث أن يتبخر عندما تشرق عليه شمس النهار، إذ أين كانت كل تلك الأنهار من العبرات وكل ذلك الحزن والأسى العميقين إن كانوا صادقين عندما كان ذلك المسكينُ الـمُحْتَقَرُ حَيٌّ يرزق وهم ينظرون إليه باحتقار صباح مساء يستحم في يم الفقر والتعاسة والشقاء، ألا تبا وسحقا لنفاق الناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق